الوقفة الأولى:

شرح مفردات الباب:

(الغلو): مجاوزة الحد ، والإفراط في التعظيم لشخص أو مسألة، سواء بالقول أو الاعتقاد .

(لا تذرن): أي لا تتركوا عبادة آلهتكم .

(وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسرا): كما فسرها ابن عباس أنها أسماء رجال صالحين من قوم نوح.

(الأنصاب) : جمع نُصُب ، وكل ما ينصب من حجر أو نحوه مما يعظم.

(لا تطروني): من الاطراء وهو المبالغة في المدح والمراد هنا: أي تبالغوا في مدحي والثناء عليّ ، فتضعوني في منزلة غير المنزلة التي أنزلني الله إياها .

(المتنطعون) : التنطع هو التعمق والتكلف والتشدق ومجاوزة الحد في القول أو الفعل.

الوقفة الثانية:

قرر المصنف في الأبواب السابقة جملة من أبواب التوحيد وبيان فضله وآثاره ووجوب الالتزام به ، ثم بيّن بعض القوادح في التوحيد ، وهنا في هذا الباب يبين رحمه الله أن من أهم الأسباب التي جعلت بعض الناس ينحرفون عن التوحيد هو الغلو في الصالحين وذلك بإنزالهم فوق منازلهم ، بحيث يعطون منزلة تضاهي منزلة الرب عز وجل، فأشركوا مع الله غيره.

فلو مات رجل صالح ثم غلا فيه بعض الناس فأخذوا يتوسلون به ، يقولون: يا فلان اشفع لنا، يا فلان اشف مريضنا، يا فلان ارزقنا ولداً أو مالاً، فما الفرق هنا بين هذا الكلام وبين من يعبد غير الله عز وجل؟‍!

لقد غاب عن هذا الذي توسل وغلا في هؤلاء أنهم أموات لا ينفعون أنفسهم فكيف ينفعون غيرهم.؟

الوقفة الثالثة:

إن الغلو في الأشخاص لـه عواقب وخيمة، فكثيراً ما يعمي عن أخذ الحق والهدى فلا يقبل هذا الغالي أيَّ حق جاء به الشرع إن كان يخالف من غلا فيه، ولذلك تجد بعض الناس لا يستمع إلا لأشخاص معينين غلا فيهم، ولا يستمع إلى غيرهم بناء على غلوه بأولئك ، وهذا يصد عن الحق، ويوقع في التعصب المذموم، وربما الانحراف عن جادة الصواب، وشاهد هذا كفار قريش بغلوهم في آلهتهم وتعصبهم لما عليه الآباء والأجداد، فلم يسلم كثير منهم مع اقتناعهم بقوة وصحة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم  .

الوقفة الرابعة:

الآية الأولى التي أوردها المصنف خطاب لأهل الكتاب من اليهود والنصارى ينبههم عن مجاوزة ما جاء في دينهم، وذلك بأن يغلو في مسألة من المسائل أو شخص من الأشخاص فيفعلوا أكثر مما شرع لـهم في الدين ولذلك عقب سبحانه هذا النهي بقوله : ]وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ[فدل على أن الغلو في الدين هو قول على الله بغير حق، وقد وصل الغلو بالنصارى أن جعلوا عيسى عليه السلام ابناً لله فقالوا : إن الله ثالث ثلاثة ، فكذبهم الله سبحانه بقوله: ]لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ[إن الغلو في مسائل الدين أمر مذموم، ولذا نجد بعضهم يحمل نفسه أمراً غير مشروع فيقع في المحذور ، ومن ذلك ما جاء قصة الثلاثة الذي قال أحدهم: أنا لا أتزوج النساء، وقال الآخر : أنا لا آكل اللحم، وقال الآخر : أنا أقوم الليل ولا أنام، وهم فعلوا هذا لأجل الزيادة في العمل والتفرغ لـه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الصنيع الخارج عن أسس الدين فقال: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)  .

من هذا الحديث نأخذ أن العبادات إذا غلا فيها الإنسان وتجاوز الحد فقد وقع في الذم ، ولذا فالواجب على المسلم الالتزام بالهدي النبوي، وعدم الغلو لأن الغلو سبب للهلاك كما جاء في الحديث الذي ذكره المصنف في هذا الباب ، وكونه سبباً للهلاك لأنه خروج عن طاعة الله عز وجل، فإذا أمر الشارع بأمر معين فخذ به ولا تزدْ عليه شيئاً فإن زدت عليه فكأنك تتهم الله تبارك وتعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يبلغوك بالواجب أو ما هو في مصلحتك .

وما ذكر هنا من النهي عن الغلو لا يعني أن نفرط أو نتكاسل عن الفرائض والمستحبات ، أو نتساهل عن أداء العبادات على الوجه الكامل، ونقول: إن الإسلام نهى عن الغلو ، نعم الإسلام نهى عن الغلو وكذا نهى عن الجفاء والضعف ، فلهذا منهج الإسلام هو الوسط والاعتدال، والسماحة واليسر، وذلك مع أنفسنا وأهلينا وعامة الناس حتى في عباداتنا ومعاملاتنا ، ولذا جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا)  .

ولا ريب أن للنفس إقبالاً على العمل الصالح وإدباراً وفتوراً عنه، ولذلك أمرنا حال الإقبال أن نربيها على ذلك ونزيد من الطاعات وفق المشروع، فمن كان يصلي الليل ثلاث ركعات فليصلِ خمساً أو سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة ركعة لكن لا يقوم الليل كله .

وفي حال فتور النفس عن العمل الصالح يعالج نفسه حتى لا ينقطع عن العبادة وعمل الخير ، ولذا جاء عن بعض الصحابة أنه كان يقول لأخيه: اجلس بنا نؤمن ساعة، أي نربي أنفسنا على الإقبال على طاعة الله وتقوية الإيمان .

الوقفة الخامسة:

تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقوله تعالى : ]وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً[ تفسير جلي ، فابن عباس رضي الله عنهما دعا لـه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل)  أي تفسير القرآن ، ويذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن الشيطان وسوس لقوم من نوح أن صنعوا تماثيل على مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها، وسموها بأسمائهم ليتذكروهم ويقتدوا بهم، ففعل هؤلاء الجهلة هذه الفعلة ولكن لم يعبدوهم، حتى مات هذا الجيل وجاء من بعدهم بعد أن انتشر الجهل وقل العلم فعبدوا هذه التماثيل من دون الله عز وجل، وقالوا: إن هذه التماثيل التي نصبها سلفنا لم توضع إلا للعبادة فوقعوا في الشرك الأكبر.

وبهذا يتضح جلياً أن أساس الكفر هنا هو الغلو في الصالحين ، والشيطان لا يأتي للمسلم مباشرة فيقول لـه: اعبد فلاناً ولكن يبدأ شيئاً فشيئاً حتى يوقع بني آدم في الشرك.

وللأسف أنه يوجد بعض مظاهر الغلو في الصالحين في بعض البلاد الإسلامية كما هو في الزمان الأول، مثل ما يعرفه البعض من الذهاب للولي الفلاني، وقد يكون هذا حقاً وليّاً من أولياء الله، وقد يكون وهماً كما هو واضح في بعض من تنسب لهم الولاية ، ولنفترض أنهم أولياء بحق لكننا نجد من المسلمين من يأتي على قبورهم طالبين العون والمدد والرزق والثناء والولد من هؤلاء، وهذا بلا شك غلو في الصالحين، ومن صرف شيئاً من العبادة لهم فقد أشرك شركاً أكبر مخرجاً من الإسلام ، والغالب على هؤلاء هو الجهل، ولكن يوجد من لـه هوى وتعصب لهذه الأمور إما بسبب الآباء والأجداد وما كانوا يفعلونه فيكابرون في أخذ الحق، والبعض الآخر لـه مقاصد مادية في هذه الأمور المحرمة فقد يجني من هذه المزارات الأموال ، وقد يحصل على الجاه والمنصب من خلال هذه الأعمال.

إن على أهل العلم مسؤولية عظيمة في إرشاد هؤلاء وتوضيح الأمور لهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن يذكروهم أن الله هو المتصرف في الأمور، والمجيب لدعوة الداعي، وهو سبحانه من يغير الأحوال بحكمته وقدرته ، وبذلك يتعلق الناس بربهم عز وجل فتصحَّح عقائدهم.

ثم إن على ولاة أمر المسلمين في مختلف البلدان مسئولية كبيرة في اجتثاث مثل هذه النصب والشركيات حتى لا تضلل العامة، نسأل الله لهم التوفيق لكل ما فيه خير.

وثمة أمر ينبغي الإشارة لـه في هذا المقام وهو أن بعض الناس يضع تمثالاً لابنه وبنته أو لأبيه في المجالس بصور مكبرة وبخاصة إذا كانوا أمواتاً وهذا طريق قد يوصل إلى الغلو فيهم وتعظيمهم ورفعهم عن منزلتهم ، فالواجب التنبه لهذا الأمر ومناصحة من يقوم به.

الوقفة السادسة:

في حديث عمر رضي الله عنه نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن ينزلوه فوق منزلته ويمدحوه بما ليس فيه مما يكون لله عز وجل مدحاً أكثر مما يستحقه، كما فعلت النصارى بجعلهم نبيهم عيسى عليه السلام ثالث ثلاثة في العبودية بعد أن قالوا: إنه ابن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون.

ولذلك جاءت الأساليب العديدة منه صلى الله عليه وسلم من التحذير من فعل هؤلاء مع أنبيائهم وصالحيهم، تارة بالنهي المجرد، وتارة بلعنهم على فعلهم كما سيأتي في الباب القادم.

ولكن هل يقدح هذا النهي في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ والجواب : أن هذا لا يقدح في محبته صلى الله عليه وسلم ، حيث إن محبته صلى الله عليه وسلم جزء من العقيدة التي يجب أن تصان عما يخدشها ، ولهذا أعلى المحبة هي محبة الله عز وجل ثم محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بطاعته فيما أمرنا به وترك ما نهانا عنه، والتقيد بأفعاله وأقواله صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تبارك وتعالى حكاية عنه صلى الله عليه وسلم : ]قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ .

فإذا كان اتباع أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم يوصل لمحبة الله عز وجل فكذلك يوصل لمحبته صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف بالمسلم وهو يسمع نهيه صلى الله عليه وسلم عن الغلو فيه وفي الصالحين، ويتجاهل ذلك ويترك أمره صلى الله عليه وسلم وهو يدعي محبته، فالمحب لمن يحب مطيع. إن محبته صلى الله عليه وسلم لا تكون حديثاً عابراً أو احتفالاً سنوياً بل بالالتزام بما أمر به وبتعظيم سنته والذب عنها .

إن بعض الناس يدعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو منكب على المعاصي والمهالك ، تاركاً العمل الصالح، فهذه دعوى مجردة باللسان يخالفها واقعه، نسأل الله تعالى لنا ولهم الهداية.

إن النهي في الغلو في الصالحين لا يقدح أيضاً في محبتهم ، فالصالحون لهم حق في إنزالهم منازلهم وإكرامهم ومحبتهم، ولكن لا يعني هذا الغلو فيهم برفعهم عن درجتهم التي تنبغي لهم .

الوقفة السابعة :

يفيد حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن التعمق في الأشياء فيما لا فائدة فيه تنطّع وتكلّف بالأقوال والأفعال وإلباس النفس ما ليس فيها، وهو أمر مذموم حتى في أمور العادات والأحوال الشخصية.

 وللتنطع صور كثيرة منها:

-       أن يتكلف الشخص في مشيته .

-       أن يتشدق بالكلام ويتكلف الفصاحة وغريب الألفاظ.

-       أن يتكلف في ثوبه ومظهره بما يكون خارجاً عن عادة الناس في اللباس والزينة.

-       وكذلك يقوم بعمل ما هو خارج عن أعراف الناس وعاداتهم.

-       وأوضح أنواع التنطع هو ما يكون في العبادات وهو المقصود هنا، وذلك بأن يزيد من العبادة ما ليس منها، أو يشدد على نفسه في أمر فيه سعة كمن يصوم نفلاً في السفر وعليه المشقة الشديدة في ذلك، أو من يعلق حبلاً ليمسك به ليقوم عليه في صلاة الليل... فهذه أمور من التنطع التي جاء الشرع بالنهي عنها. 



بحث عن بحث