الوقفة الأولى :

شرح مفردات الباب:

(يعرفون) : يدركون بحواسهم أن النعمة من عند الله .

(نعمت الله) : المقصود جميع نعم الله سبحانه فهي لا تحصى .

(ينكرونها) : أي ينكرون إضافتها إلى الله لأنهم يضيفونها للسبب متناسين المسبب الذي هو الله سبحانه .

(الكافرون) : الجاحدون أنها من عند الله سبحانه وتعالى .

(وقد تقدم) : يعني في باب الاستقاء بالأنواء .

(الملاح) : قائد السفينة .

(حاذقاً): عالماً بصنعته مجيداً للقيادة .

الوقفة الثانية:

ترجم المصنف بهذه الآية حضاً وترغيباً على التأدب مع جناب التوحيد، عن الألفاظ الشركية الخفية كنسبة النعم إلى غير الله ، ومناسبة ذكره في التوحيد أن من أضاف نعمة الخالق إلى غيره فقد جعل معه شريكاً في الربوبية، وهذا من وجهين:

الأول : لأنه أضافها إلى غير الله وهو السبب على أنه الفاعل.

الثاني: أنه لم يقم بالشكر الذي هو عبادة من العبادات، وترك الشكر منافٍ للتوحيد، لأن الواجب أن يشكر العبدُ الخالقَ المنعم سبحانه؛ فصارت لـه صلة بتوحيد الربوبية، من حيث إضافتها إلى غير الله وهو السبب على أنه الفاعل وله صلة بتوحيد الألوهية من حيث ترك القيام بالشكر الذي هو العبادة .

وأما قول الله سبحانه وتعالى: ]وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ[ بين المصنف أن جحد نعمة الله من الكفر، وقد قسم أهل العلم الكفر إلى كفرين : كفر أكبر، وهذا يخرج من الملة وسموه أكبر، الثاني: وهو الكفر الأصغر، وهو الذي لا يخرج من الملة، ولا يعني أنه صغير بل هو من أكبر الذنوب والمعاصي، ولكنه صغير نسبة إلى ما هو أكبر منه المخرج من الملة.

فإن كان هذا الجحود للنعمة جحوداً كلياً بمعنى أن يقول إن هذه النعمة ليست من نعم الله إنما هي من فلان، أو هذه النعمة من جهدي وعملي ليس لله فيها شيء ولم يقدرها، فهذا كفر مخرج من الملة .

أما النوع الثاني وهو الكفر الأصغر وهو أن يعتقد أن المنعم هو الله سبحانه، ولكن ينسبه إلى غيره فيقول: هذا المطر نزل بسبب النجم الفلاني ولم ينسب إلى الله، فهذا كفر أصغر.

الوقفة الثالثة:

إن شكر الله سبحانه وتعالى هو الأصل العظيم والمقام الرفيع، ولا يكون هذا الشكر إلا بثلاثة أمور:

الأمر الأول: الشكر بالقلب بمعنى أن يعتقد أن هذه النعمة من الله سبحانه وقد قدَّرها الله لـه ، فلو جاءه مثلاً مال كثير ومكسب لم يكن يتوقعه فيجب عليه أن يشكر الله، وشكره بأن يعتقد أن هذا المال الذي حصل عليه جاءه من الله سبحانه، وإنما كان فلان وفلان سبباً، كما يكون الزواج بين الرجل والمرأة سبباً لحصول الولد، فالولد نعمة سماه الله سبحانه نعمة ولو لم يحصل الزواج ما جاء الولد، لكن هذا الزواج سبب من الأسباب ، فيعتقد المسلم أن هذه النعمة من الله سبحانه، وكل ما يحصل عليه الإنسان في هذه الدنيا هو من نعم الله سبحانه وتعالى : ]وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا[   .

الأمر الثاني: الشكر باللسان ، فيلهج لسانه بشكر الله سبحانه كما أمر الله عز وجل: ]وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ[  فيظهر الشكر لله سبحانه بالتحميد ونحوه، ومن ذلك ما ورد عن عبدالله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر، وقال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر يومه وليلته)  .

الأمر الثالث: الشكر بالجوارح وهو أن يعمل الإنسان بهذه النعم بطاعة الله سبحانه وتعالى ولا يستعملها فيما يكرهه الله ويبغضه ، فليس من الشكر بل من كفر نعمة الله أن يعطيه الله سبحانه وتعالى مالاً وينفقه في الحرام، فهذا بالإضافة إلى أنه معصية من المعاصي فهو أيضاً كفر بنعمة الله.

فالمسلم مأمور أن يستعمل هذه النعم في طاعة الله سبحانه، لذلك قال ابن القيم: "الشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه لـه، واعترافه بنعمه، وثناؤه عليه، وألا يستعملها فيما يكره" .

الوقفة الرابعة :

يجب على المسلم أن يبذل كل الطرق لكي لا يقع في كفران هذه النعم ، وأن يسير إلى الله سبحانه معترفاً بنعمه شاكراً لـه بها، ومما يعين على ذلك أمور:

أولاً: معرفة الموقف من نعم الله سبحانه ، وهو ما أشرنا إليه قبل قليل بإسنادها إلى الله سبحانه وتعالى، وألا يتعامل معها بغير طاعة الله سبحانه .

ثانياً: أن يلهج لسانه بدعاء الله سبحانه بأن يعينه على الشكر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلمفي الحديث الصحيح : (يا معاذ إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)  . فلابد من دعاء الله سبحانه لأن الشكر درجة ومرتبة عالية لا يصلها إلا القليل، لذلك قال سبحانه : ]وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[  .

ثالثاً: أن يعرف مصارف هذه النعم ، وكيف يصرفها ومقتضيات هذا الشكر، فمثلاً: نعمة الولد، فالله سبحانه أعطاك ولداً ولم يعط هذا مثله ، فإن شكرت الله سبحانه كان نعمة عظيمة لك وامتداداً صالحاً لك، وإن كفرت بهذه النعمة كان وبالاً عليك ونقمة، ويكون ذلك بأن تربيه تربية حسنة صالحة على الاعتقاد السليم ، والخلق القويم، وإذا تربى على ذلك أعانك على شكر الله سبحانه، فينفعك هذا الولد في الدنيا والآخرة، ومثال آخر: نعمة الجوارح فنعمة العين مثلاً هذه نعمة عظيمة فلا تطلق فيما حرمه الله سبحانه وهكذا ...

رابعاً: القراءة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه من طول القيام ، فتقول لـه عائشة رضي الله عنها: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلا أكون عبداً شكوراً)   فجعل العمل لطاعة الله شكراً لله تعالى، فإذا قرأ الإنسان سيرة النبي شكراً لله تعالى وسيرة أصحابه وسير أهل العلم وعرف كيف تعاملوا مع هذه النعم فهذا يعينه بإذنه سبحانه على شكر الله جل وعلا .

خامساً : أن ينظر في أمور الدنيا إلى من هو أسفل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم). كما أنه في أمور الطاعات ينظر إلى من هو أعلا منه لكي ينافسه في الخير ويحثه عليه فيعينه ذلك على شكر الله تعالى.



بحث عن بحث