الوقفة الأولى :

لما تحدث المؤلف - رحمه الله - في الباب السابق عن الحلف بغير الله وأنه شرك بالله كان من المناسب أن يردف هذا الباب بباب آخر يعتبر مكملاً للباب السابق، وهو هذا الباب (باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله) ، وكأن المصنف أراد أن يقول: إن الحلف لا يجوز إلا بالله عز وجل أو باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته، ولا يُحلف بالآباء ومن باب أولى ألا يحلف بالأصنام والأوثان وغيرها؛ فيقول المصنف: من حُلِف لـه بالله فليقبل هذا الحلف، لأن الاقتناع بالحلف بالله هو من تعظيم الله سبحانه وتعالى، ولا شك بأن لـه أثراً عظيماً على عقيدة المسلم وارتباطه بربه .

وبناءً على ذلك فمن لم يقنع بالحلف بالله فلا يخلو حينئذ من كونه غير مقتنع بالله سبحانه وتعالى، وهذا الشخص على خطر عظيم إن لم يدرك نفسه ، وإما أن يكون هذا الشخص غير مصدق لهذا الحالف فهو هنا يتهم الحالف باستهانته بالله وكذبه في اليمين .

الوقفة الثانية :

أورد المصنف حديث عبيدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلفوا بآبائكم، من حُلِف له بالله فليصدق ومن حلف لـه بالله فليرض، ومن لم يرضَ فليس من الله) وفي هذا الحديث عدة أمور :

الأمر الأول: النهي عن الحلف بالآباء الذي كان منتشراً في الجاهلية ، وقد ذكر في الباب السابق شيئاً من التفصيل في ذلك، وأنه ينقسم إلى قسمين   .

والذي ينبغي للمسلم في هذا المقام ألا يعوّد نفسه على كثرة الحلف بالله ومن باب أولى ألا يحلف بغير الله، والله سبحانه وتعالى أمرنا بحفظ الأيمان.

الأمر الثاني: أن من تعظيم الله سبحانه أنه إذا حلف شخص بالله أن يصدق ، والكذب إذا كان في الأمور العادية محرم وهو أشد تحريماً إذا كان معه حلف بالله ، فلذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المنفق سلعته بالحلف الكاذب ، وذكر صلى الله عليه وسلم اليمين الغموس وهي من الحلف بالله على أمر ماضٍ وهو متعمد يعلم الكذب فيه فهذه الحلف يغمس صاحبه في الإثم والعياذ بالله، وذلك لأجل استهانته بالحلف بالله كاذباً.

الوقفة الثالثة:

 أخرج مسلم عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رجلاً جاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام، فقال لـه صلى الله عليه وسلم : (خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال : هل علي غيرهن؟ قال: لا إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع وذكر لـه صلى الله عليه وسلم الزكاة وأخبره بأن ليس عليه غيرها إلا أن يطوع ، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفلح وأبيه إن صدق ) .

هذا الحديث يشكل على البعض هل لفظ (أفلح وأبيه) حلف بغير الله، والجواب على هذا الإشكال من عدة وجوه:

الأول: أن هذه كلمة جرت بها عادة العرب في كلامهم وهم لا يقصدون حقيقة الحلف .

الثاني: يحتمل أن يكون هذا الحديث قبل النهي عن الحلف بالآباء ، فيكون منسوخاً بحديث الباب .

الثالث: ذكر بعض أهل العلم أنه يحتمل أن يكون هناك تصحيفاً من أحد الرواة، والأصل : (أفلح والله إن صدق)، وكانوا قديماً لا يضعون النقط على الأحرف، فحدث تشابه بين كلمة (أبيه) ولفظ الجلالة (الله) إذا حذف النقط السفلى من (أبيه).

وهناك أوجه أخرى ذكرها العلماء للجمع بين هذا الحديث وحديث الباب ولكن هذه أبرزها  .

الوقفة الرابعة :

الأصل في تعامل المسلم مع عامة الناس سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين أن يتعامل معهم بالصدق والأمانة بعيداً عن الغش والخداع ، والآيات والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصى ويكفي في ذلك ما جاء في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه قال: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)   .

فعلى المسلم أن يلتزم بالصدق في سائر أحواله وإن كان إقراراً على نفسه بحق أو مال وهذا هو الأصل، ولكن قد يلجأ الناس في تعاملهم وخصوماتهم إلى الحلف بالله لإزالة قرينة من القرائن أو شبهة ألقاها الشيطان، فيحتاج الشخص الآخر أن يؤكد ما ذكره أخوه بهذا الحلف ، فإذا حلف فعليه أن يصدقه .

وإذا اختلت هذه الموازين اختلت تعاملات الناس فيما بينهم ، وهنا الواجب علينا أن نرجع إلى توجيهات الله سبحانه وتعالى وتوجيهات رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبذلك نزيل كثيراً من الإشكالات التي تجري في تعاملات الناس اليوم . 



بحث عن بحث