الوقفة الأولى :

هذا الباب لـه علاقة بالأبواب السابقة ، وهي مساواة الخالق سبحانه وتعالى بغيره من الناس والمخلوقات، وهنا المؤلف لم يقل: باب من الشرك قول ما شاء الله وشئت، فلماذا؟

والجواب: لأن الحكم فيها يختلف ، فقد تكون شركاً أكبر إن اعتقد أن المعطوف هو مساوٍ لله سبحانه وتعالى.

وإن اعتقد أن المعطوف ليس بمساوٍ لله سبحانه ، وإنما كان هذا الشخص سبباً من الأسباب فهذا شرك أصغر، ووسيلة للشرك الأكبر، إذ أن هذا المتكلم سوّى بين مشيئة الخالق ومشيئة المخلوق ، بحرف الواو التي تقتضي المساواة والاشتراك ، فلما لم يعتقد هذه المساواة لم تكن اللفظة شركاً أكبر بل صارت أقل وهي شرك أصغر في القول على أن ظاهر كلمة : (ما شاء الله وشئت) تعني مشيئتك ومشيئة الله سبحانه على حدّ سواء .

الوقفة الثانية:

حديث قتيبة الذي أورده المصنف يعطينا إشارة إلى أن بعض اليهود لديهم شيء من العلم، ويعرفون الشرك بالله وما هو مخرج من الملة، ولكن من عادتهم التشويش على المسلمين وإلقاء الشُبه عليهم، وذلك حسد من عند أنفسهم ، اليهود أنفسهم أشركوا بالله، فكذبوا فقالوا: عزير ابن الله، وعزير رجل صالح ادّعو أنه ابن لله سبحانه، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً . والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر الذي قاله اليهودي وهو أن بعض المسلمين يشركون بالحلف بغير الله فيطوفون بالكعبة ، ويشركون بالمشيئة فيقولون: ما شاء الله وشئت ، وفي هذا درس للمحاورين، وهو أن يعترف الشخص بالحقيقة وإن كانت مرة، ولا تأخذه العزة بالإثم فينفخ فيه الشيطان ، فيحتقره الناس ولا يقبلون منه. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد من وقع بهذا الخطأ أن يقول بدلاً منه : ورب الكعبة أو ما شاء الله ثم شئت ، وهذا الترتيب بـ(ثم) يفيد التعقيب وأن مشيئة العبد بعد مشيئة الله سبحانه، وهي من باب المسبب الذي يهيئه الله سبحانه لينال الإنسان بغيته، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ]وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[  . وهذه الآية دليل على أن مشيئة العبد داخلة في مشيئة الله سبحانه .

ويستفاد من هذا الحديث أن الموجه سواء أكان والداً أو معلماً أو داعية أن يأتي بالبديل المناسب الذي يفرّج هذه المشكلة ويحلها، ولهذا من الخطأ أن يحذّر الإنسان من شيء ويسكت عن البديل الموجود والشيء الرافع للعنت والمشقة.

الوقفة الثالثة :

الحديث الذي أورده المصنف في الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت ، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده)، هو تأكيد لما جاء في أول الباب، ولا شك أننا مأمورون بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته ، وتقديم هذه المحبة على جميع المحاب سوى محبة الله سبحانه، بل إنه يجب علينا أن نحب الرسول صلى الله عليه وسلم أحب من أنفسنا وأولادنا كما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)  .

ولهذا حينما قال عمر رضي الله عنه : إنك يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي قال صلى الله عليه وسلم: (لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك) فقال عمر: والله إنك أحب إلي من نفسي ، فقال صلى الله عليه وسلم : (الآن يا عمر)  .

ومحبته صلى الله عليه وسلم واجب عقدي ، ومن أهم درجات محبته بعد تعظيمه في القلب اتباع ما أمرنا به واجتناب ما نهانا عنه صلى الله عليه وسلم .

وهذا الرجل الذي قال هذه اللفظة في الحديث عرف واجب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه أخطأ حينما زاد في تعظيمه صلى الله عليه وسلم حتى جعله مساوياً في اللفظ لله عز وجل ، أما ما في قلبه فالله أعلم به، ولا ريب أن هذا غلو في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك أنكره عليه الصلاة والسلام حيث جعله لله نداً، والند : النظير والمثيل والمساوي، والرسول صلى الله عليه وسلم أشرف عبد وأكرم رسول ولكنه لا يصل إلى منزلة لله تبارك وتعالى .

وهذا الاستفهام الوارد في الحديث هو للإنكار على هذا الفعل .

وهنا قد يقول قائل : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) فإذا كانت النية سليمة فلا إشكال . فيقال : النية وحدها لا تكفي دون حسن العمل وصوابه، ومن حسن العمل القول واللفظ ، فلا يمكن أن يشرك الإنسان بالله عز وجل ويقول: قصدي حسن ونيتي سليمة. ولهذا من شرط قبول العمل أن يكون على وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع إخلاص العمل لله سبحانه .

ولأن الألفاظ يحاسب عليها الإنسان، لم يقل صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل ماذا تقصد بهذه اللفظة؟ وما نيتك؟ فدلّ على أنهُ ينكر على من قال هذا وإن لم يقصد ظاهر العبارة ودفعاً لإيهام الترتيب والمساواة بين الخالق والمخلوق.

الوقفة الرابعة:

أورد المصنف حديث الطفيل الذي رأى في المنام رؤيا حق، وجاء فيها أن اليهود يقولون: عزير ابن الله، تعالى الله عما يقولون ، وعزير هو رجل صالح يدعي اليهود كذباً وزوراً وبهتاناً أنه ابن الله عز وجل فأشركوا مع الله، والنصارى يدعون أن المسيح وهو عيسى بن مريم عليه السلام ابنٌ لله كذباً وزوراً وبهتاناً، ولذلك يقولون: إن الله ثالث ثلاثة مع المسيح ومريم، تعالى الله وتقدس عما يقولون.

ثم ذكر المصنف هذا الحديث بتمامه، وفيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الرؤيا الصالحة ، وأمرهم أن يعملوا بمقتضاها، وهذا الأمر مبني في الأصل على التشريع الرباني وليس قائماً على هذه الرؤيا فقط ، لأن الرؤيا بعد انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم لا يبنى عليها أحكام شرعية .

وفي هذا الحديث قولـه صلى الله عليه وسلم : (.. وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها ، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا : ما شاء الله وحده) وقد ذكر أهل العلم أن قولـه صلى الله عليه وسلم : (يمنعني كذا وكذا) أي الحياء بأن أخبركم بشيء لم أؤمر به ولم يوحى إليّ شيء بشأنه، وإلا ما كان صلى الله عليه وسلم ليسكت على خطأ في الأمة ومنكر قد وقع به بعضهم أمامه، إذ يعتبر سكوته صلى الله عليه وسلم عن أي مسألة من المسائل إقراراً بما عمله الناس، ولو كان خطأ لبينه صلى الله عليه وسلم أو بينه الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حتى لو على سبيل العتاب كما في أول سورة عبس ، والله أعلم .

الوقفة الخامسة :

الرؤى والأحلام التي تعرض للنائم على ثلاثة أقسام بالإجمال:

القسم الأول: الرؤيا وهي التي تأتي بصورة واضحة ليس فيها تخويف ، وليس فيها مزيج من الوقائع والأحداث التي لا أول لها ولا آخر ، فهذه رؤيا حق، وهي التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلمأنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة؟ وهذا النوع يكون إما بشارة بخير أو تحذيراً من شر، والواجب على المسلم هنا أن يحمد الله ويشكره أن هيأ لـه ما يبشره أو يحذره أو ينذره، وعليه ألا يخبر بهذه الرؤيا إلا من يحب ويعرف أن هذا المُخبَر يحب لـه الخير، وعليه ألا يسأل عنها إلا من يجيد التعبير لأجل ألا يصرفها عن تعبيرها الصحيح . ومثال هذا النوع رؤيا يوسف عليه السلام حينما قال: (يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)  .

القسم الثاني : وهي التي يأتي بها تخويف أو ترويع للرائي، كأن يرى في المنام أن يسقط من مكان شاهق ، أو أن سيارة تصدمه أو أن شخصاً يريد قتله ... وهذا النوع لا عبرة به ، وعلى المسلم إن رأى شيئاً من ذلك أن ينقلب إلى جنبه الآخر، وينفث عن يساره ثلاثاً، ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شر ما رأى ، وإن زاد على ذلك وقام وتوضأ وصلى ركعتين فحسن، ومن قام بهذه الآداب فلا تضره هذه الرؤيا كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وهنا ينبغي للمسلم أن يحرص على تحصين نفسه بالأذكار قبل أن ينام لتندفع عنه الرؤى المنغصة التي يكرهها .

القسم الثالث: وهي الأحلام التي تأتي على شكل قصص لا أول لها ولا آخر ، ويدخل في هذا ما يراه الإنسان في الليل مما عمله في النهار، وهذه أضغاث أحلام لا عبرة بها وغالباً ما يكون النائم قد أكل أو شرب كثيراً، أو يكون مشغول الذهن في النهار بقضية ما فيراها في الليل، فهي صورة انعكست في الليل من عمل النهار.

هذه الأقسام هي مجمل ما يراه النائم . ولا شك أن تأويل الرؤى علم مستقل كما أخبرنا سبحانه بذلك فقال: ]وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ[  ومن المعلوم أن للفراسة دوراً فيها، وهي تحتاج للممارسة وتركيب أجزاء هذه الرؤيا، ويدخل في ذلك ظروف الزمان والمكان وظروف الشخص نفسه، ولهذا يرى الإنسان الرؤيا ويراها آخر ويختلف التعبير ، لاختلاف حالهما، فرؤيا العالم غير رؤيا التاجر غير رؤيا الأم غير رؤيا الصبي، والرؤيا وقت الحرب غير الرؤيا وقت السلم، ولهذا من الأدب ألا يُسأل عن تعبير الرؤى إلا من عرف عنه التعبير الصحيح أو غلب على الظن ذلك، وليس كل من اشتهر أمره بين الناس صار معبراً.

ومما ينبغي التنبيه لـه في هذا المقام أن بعض الناس تعلقوا بهذه الرؤى ، بل إن بعضهم علق عليها أحكاماً عامة للأمة، وهذه للأسف فيها شيء من ضعف الإيمان وكيف يكون ذلك ؟‍!

والجواب عليه أن يقال: كأننا نقول للناس بلسان الحال لا تعملوا فنحن سننتصر يوم كذا، وسيحل العذاب بالعدو يوم كذا، وقد يرقد كثير من المسلمين ويقعدون عن تحصيل أسباب النصر والظفر على الأعداء، اعتماداً على مثل هذه الرؤى التي كثيراً ما تخطئ، وهذا العمل غير صحيح، بل علينا أن نأخذ بأسباب النصر مثلاً فقد أمرنا بذلك .

وهنا على المسلم ألا تشغل الرؤيا وقته فيكون همه السؤال عما رآه في المنام، ويفرح أشد الفرح بالتعبير المبشر ويغتم من ضده ، وكأن هذا التعبير سابق لقدر الله أو أن هذا التعبير واقع لا محالة، بل على المسلم أن يهتم بأمور دينه أولاً، ولا مانع من السؤال عن الرؤى أحياناً ، نسأل الله للجميع الإعانة والتوفيق . 



بحث عن بحث