الوقفة الأولى :

شرح مفردات الباب:

(الهزل): الاستهزاء وتنقص أمر من الأمور .

(نخوض): نتحدث حديث الركب الذي يتسامرون .

(قراؤنا): هم الرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .

(أرغب بطونا): أي أوسع بطوناً، فهم أكثرنا أكلاً.

(أجبن عند اللقاء): أي الخوف والخوار عند القتال.

(نسعة الناقة): الحزام الذي يربط به الحل .

(تنكب): أي تضرب الحجارة قدميه من سرعته إذ أن الناقة أسرع منه، وهو يحاول اللحاق بالرسول صلى الله عليه وسلم لأجل الاعتذار .

الوقفة الثانية:

الهزل والاستهزاء والسخرية والتلاعب بالألفاظ ينقسم إلى قسمين.

القسم الأول: الهزل أو الاستهزاء بشيء فيه ذكر الله، ويدخل فيه الأحكام الشرعية وآيات الله سبحانه وتعالى، سواء الآيات الكونية أو الآيات الشرعية أو القرآن الكريم، وكذا الهزل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو سنته أو بأحد من الأنبياء والمرسلين، فمن هزل بشيء من هذا فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً من ملة الإسلام، ودليل ذلك النصوص التي أوردها المصنف.

القسم الثاني: الهزل أو الاستهزاء بالناس، فهذا لا يصل إلى الكفر ولكنه كبيرة من كبائر الذنوب، كالسخرية من الأعور أو الأعرج أو قصير القامة وطويلها ونحو ذلك من الصفات، ودليل التحريم أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أشارت إلى إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلمبأنها قصيرة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنك قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) ، فهذه كلمة واحدة كان فيها استنقاص لو خلطت بماء البحر لغيرته من عظمها، فما بالك بمن تكون مجالسهم جلّها غمز ولمز وهمز وغيبة ونميمة .

وهذا القسم لم يتحدث عنه المصنف، بل تحدث عن القسم الأول .

الوقفة الثالثة:

أورد المصنف قولـه تعالى: ]وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ[، ذكر في سبب نزولها أنها كانت في غزوة تبوك في الشهر السابع من السنة التاسعة من الهجرة، وقد كان الجو شديد الحرارة، والثمار قد أينعت وطاب قطافها، فكان الأمر شاقاً على الناس، وأشعل المنافقون شعلتهم لتثبيط المسلمين عن الخروج للقتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه حالة المنافقين إذا اشتد الضيق بالأمة يستغلون الضعف الذي فيها ليفعلوا ما يريدونه، وقد كانوا يقولون أنترك النساء والذرية والثمار ونذهب لعدو بعيد في تبوك وفي هذا الحر ؟ وما علموا أن الله أكبر وأقوى ولاسيما وأن الذي يناديهم للخروج هو النبي صلى الله عليه وسلم الموحى إليه من ربه سبحانه، ويعلمون أن الوحي ينزل عليه بذلك، ومع هذا فلم يردعهم هذا الأمر عن تثبيط المسلمين، ولكن هذا لا يعني أنه لا يذهب بعض المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للتخذيل، بل قد ذهبوا معه كما هي عادة المنافقين في إقامة الشعائر والعبادات الظاهرة كما قال سبحانه عنهم: ]وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً[ .

وكان سبب هذه الغزوة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع أن الروم مع مجموعة من العرب النصارى قد عزموا أن يغزو النبي صلى الله عليه وسلم فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدرأ شرهم، فأشار للناس أن استعدو لغزو الروم، فلما علم الروم بذلك توقفوا عن الغزو، فلم يحصل قتال، وفي طريق العودة إلى المدينة وأثناء جلوسهم للراحة كعادة المسافرين في المسامرة، أخذ المنافقون في الاستهزاء بأهل الإيمان والسخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم  وبالقرآن وتعاليم الإسلام، فقالوا: ما رأينا مثل قرائنا.... الخ والمقصود بالقراء هنا العلماء ولكن من رأس العلماء ؟ هو علم العلماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وصفوهم بأوصاف سيئة من الأكل الكثير والكذب في الأخبار والجبن والخوف عند القتال .

ثم إن الصحابي الجليل عوف بن مالك أدرك فداحة وخطر ما قاله هذا المنافق فذهب يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قاله فوجد أن الوحي قد سبقه .

وهنا جاء المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يرد عليه إلا بما أُنزل ]أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ[، بمعنى هنا انتهى عندكم كل شيء من الكلام إلا الاستهزاء بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟!!

الوقفة الرابعة:

الاستهزاء بالله تبارك وتعالى أو برسوله صلى الله عليه وسلم لا يختلف فيه اثنان أنه كفر مخرج من الملة، ولكن لابد أن يعلم أن من استهزأ بآية من كتاب الله أو بشيء من تعاليم الإسلام وأوامره وشعائره كالصلاة وإطلاق اللحية أو تقصير الثياب أو الحجاب للمرأة أن هذا قد يصل به إلى الكفر، لأن هذه الأمور قد شرعها الله من فوق سبع سماوات، ولو قيل لـه: إنك تستهزأ بالدين قال: إنما أنا أتحدث حديث الركب، ولكن يقال: إن مساحة الكلام والدعابة كبيرة جداً فاذهب لغير هذا الكلام.

وليعلم أن  الاستهزاء ليس محصوراً بالكلام فقط فقد يكون بالإشارة وقد يكون شعراً منظوماً أو نثراً مكتوباً أو مسرحية أو مسلسلاً متلفزاً أو رسومات ونحوها.

ومما يدل على فضاعة الاستهزاء بالله ورسوله أن العلماء اختلفوا هل تقبل توبة من سب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا؟ والصحيح أن توبته تقبل ولا يقتل لذلك إن ظهرت توبته.

وهنا يلتبس على بعض الناس فقد يقول إن فلاناً رجل طيب خلقه يُصلي معنا فكيف يقع في مثل هذا الأمر ؟ فليعلم أن الشيطان يسهل على الإنسان أمر الاستهزاء فيقع لـه من حيث لا يشعر، فإن قيل له: إنك تسخر بالله قال: أعوذ بالله، ولكن السخرية بالشرع هي سخرية بالله، فمن أنزل هذا الشرع؟ إنه الله سبحانه وتعالى، ولذا جاءت الآية قوية وصريحة في قضية الاستنكار: ]لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ[، ولهذا على الإنسان أن يحاسب نفسه وليتذكر قولـه تعالى: ]مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[، وقوله تعالى: ]فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ[ .

الوقفة الخامسة:

إن ما حصل من الصحابي الجليل عوف بن مالك رضي الله عنه هو من إنكار المنكر، والإنكار كما هو معلوم على درجات، فأعلاه التغيير باليد، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، ومن الإنكار عدم الجلوس في المكان، ولكن إذا كان لا يستطيع الإنكار ولا الانصراف فله الإنكار بقلبه.

قال عليه الصلاة والسلام : (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان) ولا شك أن الاستهزاء بالله تعالى أو برسوله صلى الله عليه وسلم  أو بما جاء عنهما من أعظم المنكرات. 



بحث عن بحث