ثانيًا: الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم

إن الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم يعني هدم الدين بالكامل، لذلك ركز هؤلاء المستشرقون على الطعن في حقيقة الرسالة والوحي من السماء ليكون بمثابة هدم الصرح الذي يرتكز عليه الإسلام بالكامل، وذلك بالتشكيك في أصل الدين ومنبع أحكامه وأوامره ونواهيه، وبالتالي تتساقط المبادئ الأخرى تلقائيًا، وهذا الأسلوب العدائي الناتج عن الحقد الغائر في صدور أولئك القوم كان الأسلوب نفسه الذي مارسه كبراء قريش وزعماء الشرك في الصدر الأول من عهد هذا الدين، حيث اتهم المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما يأتي به محمد ليس إلا نوعًا من الجنون أو صرعًا ينتابه في بعض الأحيان، فيأتيه وهو في حالته هذه بعض الأمور فيبثها على الصحابة من حوله، أو هو نوع من السحر يتعامل من خلاله مع الجن فيعلمونه أمورًا يجهلها المجتمع العربي في ذلك الوقت، وغيرها من الافتراءات والأكاذيب التي لا سند لها ولا دليل، فكان ذلك بمنزلة طعن في الوحي والتشكيك فيه.

يقول المستشرق هنري ماسيه  في كتابه «الإسلام»: «ووفقًا للتقاليد فإن محمدًا تلقى في بادئ الأمر نوعًا من الدوي فصار كأنه مصاب بالحمى، وشحب لونه وارتجف وتدثر بدثار، وهناك بعض المؤرخين - والبيزنطيون منهم على الخصوص - تحدثوا عن الصرع الذي يمكن أن يكون محمد مصابًا به، ومن المعلوم في القرون الوسطى في الشرق كما في الغرب أن هؤلاء المرضى كانوا يعتبرون كأن روحًا تمتلكهم، وقد أصبحت النوبات عند محمد مألوفة كثيرًا ابتداء من الوحي الأول الذي حدث في شهر رمضان».

ويقول المستشرق واشنجتون آفنج في كتابه «حياة محمد» تحت عنوان «مسألة تعرض محمد لحالات من الصرع»: «وهي المسألة التي يثيرها خصومه من الكتاب المسيحيين، ويبدو أن بعض المؤرخين المسلمين القدامى قد أيدوها، فذهبوا إلى أن محمدًا كان يصاب برعدة عنيفة ثم بنوع من الإغماء أو التشنجات وفي خلال ذلك ينحدر من جبهته سيل من العرق البارد، فكان يرقد وعيناه مغلقتان وقد انتشر الزبد حول فمه... وكانت زوجته عائشة ومولاه زيد ممن وصفوا هذه الحالة وذكروا أنها تحدث له نتيجة نزول الوحي عليه، وقد انتابته هذه الحالة عدة مرات في مكة قبل نزول القرآن وخافت خديجة عليه؛ إذ ظنت أنها نتيجة تأثير الأرواح الشريرة، وأرادت استدعاء أحد المشعوذين ليفحصه، ولكن محمدًا نهاها عن ذلك، فكان لا يحب أن يراه أحد خلال هذه النوبات».

للرد على هذه الأقاويل والدعاوى يجب معرفة ما يلي:

1 - لماذا هذا التشكيك في الوحي ووصفه بأنه ضرب من الصرع أو السحر، ألم يكن هذا الوحي نفسه الذي كان ينزل على موسى وعيسى عليهما السلام؟ لماذا يكون هذا الوحي نتيجة صرع على النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق وحقيقة مع موسى وعيسى عليهما السلام؟ أليس هذا الكلام نفسه نوعًا من الازدواجية في القياس والتحليل؟؛ بل إنه كراهية وحقد دفين في نفوس هؤلاء الغربيين تجاه هذا الدين الذي توسع بفضل الله تعالى ووصل إلى أقاصي الأرض.

ثم إن الوحي كان ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بصور متعددة؛ فأحيانًا كصلصلة الجرس، وأحيانًا بصورة رجل، وأحيانًا بصورته الحقيقية، كما ذكرته أم المؤمنين عائشة ك أن الحارث بن هشام ط سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول، قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا».

2 – إن الوحي الذي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الصور المتعددة لم يكن بينه وبين الصرع أي تقارب أو تشابه، لأن الصرع عندما يصيب الإنسان يفقده النطق والحركة وتصطك أسنانه وتزيغ عيناه، فأين هذا من الحالة التي كان عليها النبي عليه الصلاة والسلام وهو يتلقى الوحي؟ ثم كيف يؤمن به الناس وهو يعاني مرض الصرع، وهو الذي يأتيهم بكلام فصيح وبليغ، تحدى العرب به عدة مرات في كتاب الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿23 فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23-24].

3 – أن الحالات التي ذكرها هؤلاء هي محض افتراء وكذب وليس عليها دليل علمي، وإنما هو مجرد أقاويل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه الوحي في المرة الأولى كان في غار حراء، ولم يسبقه شيء قبل ذلك كما يدعي هؤلاء حيث جاء في حديث عائشة ك.

عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه، وهو التعبد الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1 خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}[العلق : 1-3] فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد ك فقال: زمِّلوني زمِّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع».

وإن جبريل عليه السلام جاءه كان على صورته الحقيقية كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ثم فتر عني الوحي فترة، فبينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض».

وهذا يرد قولهم أن محمدًا تلقى في البداية نوعًا من الدوي.

4 – أما قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تأتيه هذه الحالات قبل مجيء الوحي فإنه لا يستند إلى شيء، والتاريخ يثبت كذب هذا القول وزوره، لأن هؤلاء يريدون من وراء ذلك أن يفصلوا الوحي الحقيقي عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وعدَّه حالة قديمة معه عليه الصلاة والسلام. فأين المستند على ذلك؟!

5 – أما قولهم وافتراؤهم على خديجة ك بأنها خافت عليه وخشيت أن يكون الوحي من الأرواح الشريرة، فإنه مردود عليهم بقول خديجة نفسها ك، عندما أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي وقال: خشيت على نفسي، فردت أمّنا ك: «كلا والله لن يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق».

وأما قولهم: إنها ذهبت به إلى مشعوذ، فإن ذلك حمق وافتراء، لأن الذي ذهبوا إليه هو ورقة بن نوفل الذي تنصر وكان عنده علم من الكتب السماوية.



بحث عن بحث