إن الشريعة الإسلامية الغراء كاملة وشاملة وصالحة لكل الأزمان، ولكل الأمكنة، ولكل الأحوال، وقد بيَّن سبحانه كمالها وتمامها في محكم تنزيله، فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [سورة المائدة:3]، وأشهد الله نفسه وملائكته وأولي العلم على ذلك، كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران: 18-19]، وبيَّن أن من أعرض عنها فهو من الخاسرين في الآخرة، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران:85].

ومع هذا فقد قامت دعوات تدعو إلى تجديد الشريعة لكي تكون صالحةً للزمان الذي نعيش فيه، ولإصلاح هذه البيئة الأليمة، وكل يدلي بدلوه، ويقول رأيه فيها.

والأمر الذي يثير البلبلة في الأفكار هو أن أغلب رواد الإصلاح يرفعون راية الدين، ويدَّعون أنهم على الجادة التي ترك عليها النبي  صلى الله عليه وسلم  أصحابه، وأن قولهم هو الفيصل، ولو كان مخالفًا للنصوص الثابتة القطعية.

ولنعلم أن الغرب يراقب العالم الإسلامي بعيون كثيرة، ولدوافع وبواعث متعددة، فهناك أولًا: العداء الديني التاريخي، وثانيًا: المصالح الغربية الحيوية في العالم الإسلامي، وثالثًا: الخوف المتأصل من منافس يزيل سيادة الغرب، وغير هذه الأمور، ومن هنا فإن الغرب يرصد العالم الإسلامي بدقة، ويتابع كل حركة، ويحصي ويحلل ويتنبأ، ويوجه ويخطط لمستقبل العالم الإسلامي والمسلمين.

فمن مكائدهم للعالم الإسلامي: أن أوجدوا فئةً من المثقفين بين أبناء الأمة المسلمة، يتكلمون بلغتهم، ويلبسون لباسهم, ويسكنون معهم، ولكنهم ينتمون إلى الغرب بأفكارهم وميولهم، ويحاولون أن يحدثوا البلبلة والفوضى بين صفوف المسلمين عن طريق تأويل النصوص، والعبث بها حسب ما تمليه عقولهم وبدون ضوابط، بدعوى أنهم رجال قادرون على تجديد الشريعة لتكون ملائمةً لهذا العصر.

فمن مزاعمهم الباطلة: أن التقدم العلمي الحاضر، والمعارف المعاصرة، تستلزم إعادة النظر في الفكر الديني القديم، وتأويل تعاليم الدين لتتلاءم مع معارف وظروف العصر السائدة، فلا بد من إيجاد المواءمة بينه وبين الظروف الجديدة المتغيرة، وقد تكون هذه المواءمة بإعادة تفسير وتأويل بعض تعاليم الدين، ورفض التفسيرات القديمة لها، وقد تكون باطراح بعض التعاليم التي لم تعد مناسبة, وتغييرها بتعاليم مناسبة، وعلى كل حال فإنه لا بد من إعادة تكييف الدين على ضوء ظروف ومعارف العصر السائدة.

والإنسان في كل عصرٍ اعتبر عصره عصرًا جديدًا، عصرًا ذهبيًا، عصر التقدم والرقي، عصرًا متحضرًا ومتمدنًا، عصر العلوم والفنون، وظن العصور السالفة عصورًا بائدةً، عصورًا خاليةً من المزايا والمحاسن، عصورًا وحشيةً، عصورًا كان الناس فيها مصابين بالجهل والرجعية، والفوضوية والأنانية، وهذا الظن الخاطئ وقع فيه الإنسان في كل عصرٍ، مع أن الحقيقة أنه لم يدخل عليه أيّ تبدل أو تغير في طبعه منذ الإنسان الأول إلى يومنا هذا؛ ما عدا بعض الابتكارات العلمية، والتطورات التقنية، والاكتشافات الجديدة التي قد فتح الله أبوابها على الإنسان بفضل منه ورحمته سبحانه وتعالى, فكان عليه أن يشكر الله تعالى امتنانًا لهذه النعم الكثيرة، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ لكي يزاد له في النعم، كما قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[سورة إبراهيم: 7] ونسي أن هذا ابتلاء منه سبحانه، كما قال تعالى على لسان نبيه سليمان عليه السلام: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [سورة النمل:40].

إن ديننا لا ينكر الاختراعات ولا الابتكارات العلمية، ولا يفرض قيودًا عليها إذا لم تكن ضارة بالجنس البشري، مثل ما فرضت المسيحية عبر القرون الماضية، والكتب مليئة بالوقائع والأحداث التي ارتكبوها في حق العلم وأهله، أما الإسلام فمن اليوم الأول حثّ على العلم والتعلّم والتعليم, فأول وحي منزل من عند الله فيه الحثّ على العلم، ولكنه يعطينا ضابطًا، وهو أن لا يكون العلم سبّب مضرةً للبشر، وأن يكون التغيير والتبديل في إطار الشريعة نفسها وفق ضوابطها الدقيقة.

يقول الشيخ أبو الحسن الندوي: «إن التغيير صحيح ما دام يسير في إطار الدين، وفي الاتجاه الذي يحقق غاياته، ولن يكون الدين صحيحًا إذا استجاب لكل تغير». باعتباري مريدًا وتابعًا لدين لا يمكنني أبدًا أن أقبل وضعًا يستجيب فيه هذا الدين لكل تغير، ولا يمكن أن توافق أنت على ذلك أيضًا؛ لأن الدين ليس مقياس حرارة يقتصر عمله على تسجيل درجة الحرارة، ولا هو بالأداة التي ترصد اتجاه هبوب الرياح... لا يمكن تعريف الدين بهذه العبارات، ولا يمكن أن يصير إلى أداة آلية غريبة، وليس بيننا واحد يريد من الدين أن يعمل كسجل لتغيرات الأزمنة، وإن دينًا وضعيًا مزعومًا لا يمكن أن يتحمل هذا الوضع، فكيف بدين منزل؟!

إن الدين يقر التغير كحقيقة واقعة، ويعطي أكمل مجال لسير الأمور من أجل تحول صحيح سليم.

الدين يتقدم مع الحياة يدًا بيدٍ، ولا يواكبها فقط كتابع لها... ووظيفته أيضًا أن يميز بين تغير سليم وآخر غير سليم، وبين نزعة هدامة وأخرى بناءة... ويجب أن يقرر الدين فيما إذا كان التحول نافعًا، أو ضارًا بالبشرية، أو بأتباعه على الأقل.

وبينما يتماشى الدين مع الحياة جنبًا إلى جنبٍ من جهةٍ، فإنه يعمل حارسًا وحاميًا لها من جهةٍ أخرى, وتجب عليه مهمة المراقبة والضبط أيضًا، وليس من شأنه أن يلصق طابعه على أيِّ وثيقةٍ أو صكٍ.. بل يجب عليه أن يميز ويختار. أجل إنه يفحص «الوثيقة» أولًا ثم يصدر حكمه.

وكذلك فلنعلم حقيقةً ثانية وهي: أن ثقافة العصر لا تقوم كلها على أمور علمية، بل القليل جدًا من معارفه وعلومه من الحقائق العلمية الثابتة, وإن معظمها مبنية على فروض واحتمالات، وكم نسمع في الصحف والجرائد، وفي المؤتمرات العلمية أن نظريةً كانت حقيقةً علميةً ثابتةً صارت نظريةً غير علميةٍ. فكيف يخضع الدين الحنيف المنزل من الرحمن الرحيم الخالق للبشر، والعالم بهم جملةً وتفصيلًا، لتفسيراتٍ وتأويلاتٍ بناءً على نظرياتٍ متغيرةٍ ومتبدلةٍ؟

أيضًا: أن معارف العصر كلها ليست قائمةً على حقائق مجردة، معتمدةً على المشاهدة والتجربة والاستنتاج، بل مزجت وخلطت بتصورات ونظريات تسيطر عليها الروح الإلحادية المادية، وكذا تصورات عن ديانات قديمة أو ديانات محرفة, وما خرج عن معياره يعتبره من الخرافات والأساطير، والأوهام والتخيلات التي لا حاجة إليها في عصر العلم والتقدم والرقي. فالدين في نظرهم صحيح ما دام لا يتعارض مع التطور، مع أن الحقيقة «التطور صحيح ما دام لا يتعارض مع الدين».

فلذا نرى على المتخصصين في الأمة أن يصوغوا معارف العصر كلها بصياغة إسلامية، ويعيدوا كتابتها وتدوينها تدوينًا إسلاميًا من جديد في ضوء مفاهيم الدين وداخل إطاره.

ونود أن نشير هنا إلى نكتة هامة؛ وهي: أن الجيل الحاضر إذا قرر أن يعرض عن كل ما أنجزته الأجيال الماضية من عمل وجهد، وأن يؤسس له بناءً جديدًا، على قواعد جديدة، فإن للأجيال الآتية بعده أن تتخذ قرارًا سفيهًا مثل هذا، وتعرض عن هذه الجهود, فهل هذا رأي سديد؟ وموقف سليم تجاه العلم؟ وهل يقول به أحد من العقلاء؟ بل إن العاقل هو من يتقدم إلى الأمام مضيفًا إلى الأعمال السابقة أعمالًا جديدةً، وهكذا لا يزال يتقدم بخطى حثيثة في ميدان الكمال والارتقاء.

يقول الشيخ بسطامي سعيد: «إن رفض الفكر لمجرد أنه نشأ في عصور ماضية، ولمجرد كونه قديمًا، قول لا صلة له بالعلم، وبعيد عن الموضوعية، مهما صدر عمن يتحلى بأفخم الألقاب العلمية، إن الفكر لا يمكن أن يقبل أو يرفض باعتبار الزمان والمكان الذي ظهر فيه، ولكن يرفض إذا قدمت الأدلة على خطئه، فإذا ثبت أن الفكرةَ صحيحةٌ كانت صحيحةً ولو ظهرت في أحقاب ما قبل التاريخ، وإذا ثبت أن الفكرة خاطئة فهي خاطئة ولو أعلنها عباقرة العصر الحاضر».

إن المعيار الصحيح الوحيد لإدراك المصالح ودرء المفاسد في الشريعة والتقدم والتطور هو: القرآن, وما صحّ عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  من السنة؛ كما أشير إلى هذا الأصل العظيم في قوله  صلى الله عليه وسلم : «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ الله وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ». وقال النبي  صلى الله عليه وسلم : «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».

والعقل الثاقب، والبصيرة النافذة، والفهم السليم، يساعد الإنسان في إدراك المحاسن والمفاسد المتفق عليها في جميع الشرائع. قال تعالى مقررًا ضرورة إعمال العقل والتفكر في الميادين التطبيقية: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [سورة محمد: 24]. وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة يوسف:2], وقال تعالى: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [سورة الأنبياء:67]، وغيرها من الآيات كثيرة.



بحث عن بحث