سد الذرائع والوسائل المؤدية إلى المفسدة

 

لما كانت الشريعة لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت قدّم أهمّها وأجلّها، وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عطّل أعظمها فسادًا باحتمال أدناها, ولما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود... فإذا حرم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقًا لتحريمه، وتثبيتًا له ومنعًا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم. ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سَدَّ الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها(1)

 

      والأدلة عليها من وجوه:

الأول: قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ فَيَسُبُّوا اللَّـهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 108].

فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين ــ مع كون السب غيظاً وحميةً لله وإهانةً لآلهتهم ــ لكونه ذريعة إلي سبهم الله تعالى.

 

الثاني: قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ﴾  [سورة النور: 31].

فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزًا في نفسه؛ لئلا يكون سببًا إلى سمع الرجال صوت الخلخال, فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.

 

الثالث: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ﴾ [سورة النور: 58].

أمر تعالى ممالك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم الحلم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لئلا يكون دخولهم هجمًا بغير استئذان فيها ذريعة إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة.

 

الرابع: قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون عليهما السلام، ﴿ اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ﴿٤٣﴾ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ﴾ [سورة طه:43-44].

 

فأمر تعالى أن يلينا القول لأعظم أعدائه وأشدهم كفرًا وأعتاهم عليه؛ لئلا يكون إغلاظ القول له مع أنه حقيق به ذريعة إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة، فنهاهم عن الجائز؛ لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه تعالى.

 

الوجه الخامس: أنه تعالى نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد، وأمرهم بالعفو والصفح؛ لئلا يكون انتصارهم ذريعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإغضاء واحتمال الضيم، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة.

 

الوجه السادس: أنه تعالى نهى عن البيع وقت نداء الجمعة؛ لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها.

 

الوجه السابع: أن النبي ﷺ كان يكف عن قتل المنافقين ــ مع كونه مصلحة ــ لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه، وقولهم: إن محمدًا يقتل أصحابه؛ فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه ومن لم يدخل فيه، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل.

 

الوجه الثامن: أن النبي ﷺ حرم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن، والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين، سدًا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع.

 

الوجه التاسع: أن الله تعالى أمر بغض البصر ــ وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكر في خلق الله ــ سداً لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحظور.

 

الوجه العاشر: أن النبي ﷺ نهى عن بناء المساجد على القبور، ونهى عن تجصيص القبور، واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانًا والإشراك بها، وحَرَّمَ ذلك على من قصده ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدًا للذريعة.

 

الوجه الحادي عشر: أن النبي ﷺ نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة؛ وسِرُّ ذلك أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل.

 

الوجه الثاني عشر: أن النبي ﷺ حرّم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة.

 

الوجه الثالث عشر: وكذلك حرّم نكاح أكثر من أربع نساء؛ لأن ذلك ذريعة إلى الجور.

 

الوجه الرابع عشر: وكذلك نهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة سدًا لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير بقتالهم كما هو الواقع؛ فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف أضعاف ما هم عليه، والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن، ولذلك قال: «إذا بويع للخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»(2)سدًا لذريعة الفتنة.

فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكاله أن يحذر الطرق والوسائل المؤدية إلى المحارم، ولا يستحلها بأنواع المكر والاحتيال, وليعلم أن تجويز الحيل يناقض سدّ الذرائع مناقضةً ظاهرةً؛ فإن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة، فالأدلة الماضية تدل على تحريم الحيل والعمل بها والإفتاء بها في دين الله(3)

 

وبناءً على هذا الأصل: يتوجب على الداعية أن يتنبه في حال تطبيق هذه القاعدة إلى أمرين أساسيين، أولهما: إعمال القاعدة وعدم إهمالها فقد أعملها الفقهاء في الأحكام، فكذلك يجب إعمالها في الدعوة، والأمثلة على هذا كثيرة: مثل عدم بيان تفصيل حكم من الأحكام للعامة؛ لأن هذا فيه فتنة لهم في دينهم، فتسد هذه الذريعة لئلا يتوصل بها إلى الفتنة، ومن ذلك: الأعمال التي قد تكون مشروعة في أصلها ولكن يترك العمل بها لئلا تؤدي إلى محظور؛ مثل سب آلهة الكفار ومعتقداتهم لئلا يسب الله جل وعلا. وغيرها من الأمثلة كثيرة.

 

أما الأمر الثاني فهو: عدم المبالغة في إعمال هذه القاعدة، فتؤدي هذه المبالغة إلى حرمانها من وسائل مفيدة، مثل عدم الدعوة من خلال شاشة التلفزيون؛ فمنع الدعوة من خلالها يؤدي إلى حرمان وصول الخير إلى أمة كثيرة من الناس، ومثلت بهذا المثال مع التنبيه أن هذا الحكم ليس على إطلاقه فيحتاج إلى تفصيل، ولكن التمثيل للتصور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) إعلام الموقعين لابن القيم، (المجلد الثاني)، 3/108-109, بتصرف يسير.

(2) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب: إذا بويع لخليفتين، برقم: (1853)، ص: 832.

(3) ينظر: إعلام الموقعين لابن القيم، (المجلد الثاني)، 3/110-126, بتلخيص.



بحث عن بحث