بعض القواعد الفقهية في باب جلب المصالح ودرء المفاسد

القاعدة الثالثة: درء المفاسد أولى من جلب المصالح:

المراد بهذه القاعدة أنه إذا تعارض مفسدة ومصلحة، وكانت المفسدة أعظم من المصلحة، وجب تقديم دفع المفسدة، وإن استلزم ذلك تفويت المصلحة؛ لأن اعتناء الشارع بدفع المنهيات أشد من اعتنائه بفعل المأمورات، لقوله ﷺ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ«(1)

ومن دلائله قوله تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة: 216], فبين أن الجهاد الذي أمروا به وإن كان مكروهاً للنفوس شاقًا عليها فمصلحته راجحة, فقد يحب المرء شيئًا لمصلحة ولكنن قد تكون وراءها مفسدة أشد منها وهو لا يعلم, وهكذا كل منهي عنه فهو راجح المصلحة وإن كان محبوبًا للنفوس موافقًا للهوى فمضرته ومفسدته أعظمم مما فيه من المنفعة، وتلك المنفعة واللذة مغمورة مستهلكة في جنب مضرته.

وقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾[سورة البقرة: 219].

فحرم الله الخمر والميسر؛ لأن مفسدتهما أعظم من مصلحتهما.

قال ابن كثير: أما إثمهما فهو في الدين وأما المنافع فدنيوية؛ من حيث إن فيها نفع البدن, وتهضيم الطعام، وإخراج الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذة الشدة المطربة التي فيها، كما قال حسان ابن ثابت في جاهليته:

ونشربها فتتركنا ملوكاً ***   وأسداً لا ينهنهها اللقاء

وكذا بيعها والانتفاع بثمنها، وما كان يقمِّشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة؛ لتعلقها بالعقل والدين، ولهذا قال تعالى: ﴿ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ (2)

وأما من السنة فما رواه أبو هريرة ا: «أَنَّ رَسُولَ اللّٰـهِ ﷺ لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ«(3)

فنهى النبي ﷺ النساء من زيارة القبور، ولعن عليهن ــ مع ما فيها من مصلحة ظاهرة ــ لئلا يفضي ذلك إلى مفسدة أعظم منها؛ من فتنة الأحياء، وإيذاء الأموات، وقلة صبرهن، وكثرة جزعهن.

يقول ابن القيم :: أما النساء فإن هذه المصلحة وإن كانت مطلوبة منهن، لكن ما يقارن زيارتهن من المفاسد التي يعلمها الخاص والعام؛ من فتنة الأحياء، وإيذاء الأموات، الفساد الذي لا سبيل إلى منعه إلا بمنعهن، أعظم مفسدة من مصلحة يسيرة تحصل لهن بالزيارة، والشريعة مبناها على تحريم الفعل إذا كانت مفسدته أرجح من مصلحته، ورجحان هذه المفسدة لا خفاء به؛ فمنعُهنَّ من الزيارة من محاسن الشريعة(4)

وفي عالمنا التربوي والدعوي اليوم نحتاج إلى فقه دقيق لهذه القاعدة، فكثير من الإشكالات راجعة إلى عدم فقه هذه القاعدة، وعلى سبيل المثال:

-      على مستوى الأسرة خروج المرأة لإلقاء محاضرة لمجموعة النساء، ولكن هذا يتعارض مع تركها رضيعها عند خادمة عددًا من الساعات.

-      ومثله: المشاركة في ندوة مع علم الأب عدم خروج أبنائه للصلاة، أو غلبة ظنه أن يخرجوا مع أصدقاء السوء.

-      ومثله: خروج الابن في نزهة، أو رحلة دعوية، مع ترك والده أو والدته أو أسرته مع حاجتهم إليه.

-      وعلى مستوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع أن يحرص المعلم على تحفيظ بعض الطلاب القرآن الكريم علاوة على المقرر، ولكن هذا سيترتب عليه ثقل القرآن الكريم على الطلاب ورد فعلهم عليه، فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.

وعلى العاقل من المربين والدعاة موازنة أعمالهم في ضوء هذه القاعدة العظيمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) القواعد الفقهية للجزائري، والحديث رواه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ، برقم: (7288)، ص: 1254، ورواه مسلم في كتاب الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، برقم:(1337)، ص: 564، واللفظ له.

(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 1/373.

(3) جامع الترمذي، كتاب الجنائز، باب: ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء، برقم: (1056)، ص: 255, وقال:هذا حديث حسن صحيح.

(4) تهذيب السنن، 4/349.



بحث عن بحث