أساليب الدعوة

 

- التربية بأعمال القلوب: أعمال القلوب كثيرة فمثلاً الإخلاص؛ فهو عمل قلبي تظهر آثاره على الجوارح، وكذا المحبة، واليقين، وذروة اليقين ما فعله النبي ﷺ في مواقف من أعظمها: موقف الحديبية؛ حين قال: إني رسول الله ولن يضيعني الله. فعن أَبي وَائِلٍ قَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ، فَقَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ فَقَالَ: بَلَى. فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟ أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! إِنِّي رَسُولُ الله وَلَنْ يُضَيِّعَنِي الله أَبَدًا. فَانْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّهُ رَسُولُ الله وَلَنْ يُضَيِّعَهُ الله أَبَدًا. فَنَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ، فَقَرَأَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى عُمَرَ إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله أَوَ فَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ نَعَمْ(1)

 

ومنها الإيثار: وقد اختص الأنصار بهذه المنزلة الرفيعة، ومن أروع ما يحكي لنا التاريخ صورة خروج الأنصار للقيا إخوانهم من المهاجرين وترحابهم الغالي بهم وإيثارهم على أنفسهم، وتتجلى مظاهر الإيثار في تأمين السكن للمهاجرين، واقتسام الثمرة عليهم، وما قدموه من منائح والهدايا وغيرها، فمنهم من يعرض زوجاته على أخيه أيتهن أحب ينزل له عنها؛ فروي أن النبي صلى الله عليه وسلمآخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فقَالَ سعد لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ مَالًا فَأَقْسِمُ مَالِي نِصْفَيْنِ، وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَسَمِّهَا لِي أُطَلِّقْهَا فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجْهَا، قَالَ: بَارَكَ الله لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ أَيْنَ سُوقُكُمْ. الحديث(2)

وقد أثنى الله عليهم في قوله: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]. وغيرها من أعمال القلوب كالخوف والخشية والتجرد لله سبحانه وتعالى، والمراقبة والمحاسبة، والتوكل والرجاء، كل هذه ونحوها يربي الداعية نفسه وغيره عليها.

 

-      التربية بالأخلاق: التربية على الأخلاق الطيبة من مطالب الدين، وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الصحابة، كالشجاعة والكرم والوفاء والصدق في القول، وعدم الكذب والخيانة والغدر وغيرها، فتربية المسلم على معاني الإسلام وصياغة سلوكه وفق هذه المعاني أمر ضروري، لا غنى للمسلم عنه، ومن ثم وجب على الداعي الاهتمام به وجعله في مقدمات ما يحرص عليه، وحفظ معاني الإسلام فقط دون أن تمس القلب لا يفيد في صلاح المسلم ولا في التقويم.

 

- التربية بالتعليم: لا يخفى علينا أنه حث القرآن الكريم المسلمين على التعليم، وحث النبي صلى الله عليه وسلم، بل لقد كان أول عمل قام به حين دخل المدينة هو بناء المسجد، ولم يكن دور المسجد مقتصرًا على العبادة، بل كان مركزًا لمختلف نشاطات المجتمع الإسلامي، فعلى سبيل المثال تدارس القرآن في المسجد، فقد جاء في الحديث عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:... وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِن بُيُوتِ الله يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِم السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُم الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُم الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ الله فِيمَنْ عِنْدَهُ(3)

فهذا يدل على فضل التماس العلم وتدارس كتاب الله، وأن يكون التدارس في جماعة من المسلمين، وأن يكون المكان هو المسجد.

ومما يدل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالتعليم ما جاء في صحيح مسلم أن النبي ﷺ ترك الخطبة ونزل لتعليم السائل. فعن حُمَيْد بْن هِلَالٍ قَالَ: قَالَ أَبُو رِفَاعَةَ: انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! رَجُلٌ غَرِيبٌ جَاءَ يَسْأَلُ عَن دِينِهِ لَا يَدْرِي مَا دِينُهُ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ، فَأُتِيَ بِكُرْسِيٍّ حَسِبْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا قَالَ: فَقَعَدَ عَلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي ممَّا عَلَّمَهُ الله، ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ فَأَتَمَّ آخِرَهَا(4)

قال النووي: فِيهِ اِسْتِحْبَاب تَلَطُّف السَّائِل فِي عِبَارَته وَسُؤَاله الْعَالِم. وَفِيهِ تَوَاضُع النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَرِفْقه بِالْمُسْلِمِينَ، وَشَفَقَته عَلَيْهِمْ، وَخَفْض جَنَاحه لَهُمْ. وَفِيهِ الْمُبَادَرَة إِلَى جَوَاب الْمُسْتَفْتِي وَتَقْدِيم أَهَمّ الْأُمُور فَأَهَمّهَا، وَلَعَلَّهُ كَانَ سَأَلَ عَن الْإِيمَان وَقَوَاعِده المُهِمَّة. وَقَد اتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَن جَاءَ يَسْأَل عَن الْإِيمَان وَكَيْفِيَّة الدُّخُول فِي الْإِسْلَام وَجَبَ إِجَابَته وَتَعْلِيمه عَلَى الْفَوْر(5)

ومما يدل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالتعليم أنه عرض على أسرى بدر من كفار قريش أن من أراد أن يفتدي نفسه بتعليم عشرة أطفال من المسلمين القراءة والكتابة فليفعل، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِن الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِدَاءٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلَادَ الْأَنْصَارِ الْكِتَابَةَ، قَالَ: فَجَاءَ يَوْمًا غُلَامٌ يَبْكِي إِلَى أَبِيهِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: ضَرَبَنِي مُعَلِّمِي. قَالَ: الْخَبِيثُ يَطْلُبُ بِذَحْلِ بَدْرٍ وَالله لَا تَأْتِيهِ أَبَدًا(6)

وهذا مما حفز الصحابة إلى طلب العلم طلبًا موصولًا في إقبالهم عليه، وحرصهم الشديد على التفقه في الدين، وملازمة النبي غ من أجل طلب العلم.

ولم يكن تلقي العلم قاصرًا على الرجال فحسب، بل للنساء سهم وافر فيه؛ إذ كان لهن يوم خاص يتلقين فيه تعاليم دينهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال: قَالَت النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِن نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِن وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِن النَّارِ، فَقَالَت امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ؟ فَقَالَ: وَاثْنَتَيْنِ(7)

فلا يكفي أن يقوم الداعي بتعليم المستجيب معاني الإسلام، وإنما عليه أن يحمل على العمل بها صياغة سلوكه بموجبها ومقتضاها، وهذا ما يقصد بالتربية مع العلم.

 

ومما يدخل في التربية بالتعليم حرص الداعية نفسه، وعلى من تحت يده أن يكون هناك منهج تعليمي وتثقيفي يزود نفسه فيه، وفي مقدمة هذا المنهج كتاب الله تعالى: قراءةً وتدبرًا، وحفظا، وتفسيرًا، فيحفظه أو يحفظ ما تيسر منه، وكذا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحفظ منها ما تيسر مع القراءة المتواصلة فيها، وكذا سيرته صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما يحتاجه الداعي من العلوم الشرعية والعربية والتربوية في منهج متكامل(8)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) صحيح البخاري، كتاب الجزية، باب: إثم من عاهد ثم غدر، برقم: (3182).

(2) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب إخاء النبي ﷺ بين المهاجرين برقم: (3780).

(3) قطعة حديث رواه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، برقم: (2699).

(4) صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب: حديث التعليم في الخطبة، برقم: (876).

(5) شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الثاني، 6/165.

(6) سند أحمد (1/247).

(7) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب: هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم، برقم: (102). وينظر كتاب: أسئلة النساء للنبي غ جمعاً ودراسةً، للكاتب.

(8) ينظر ما كتبته في كتاب: «قواعد منهجية في طلب العلم».



بحث عن بحث