أنواع القول في المجال الدعوي

 

ج- التبليغ بالفعل(بالقوة): وهذا لمن له سلطة على الآخرين، فإذا رأى منكرًا فيمن تحت يده، منعهم بالقوة، وأزال المنكر، كما جاء في الحديث: عَن طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَن بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَن رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ(1).

 

قال النووي: قَالَ الْقَاضِي عِيَاض :: «هَذَا الْحَدِيث أَصْل فِي صِفَة التَّغْيِير، فَحَقُّ الْمُغَيِّر أَنْ يُغَيِّرهُ بِكُلِّ وَجْه أَمْكَنَهُ زَوَاله بِهِ قَوْلًا كَانَ أَوْ فِعْلًا ; فَيَكْسِر آلَات الْبَاطِل، وَيُرِيق الْمُسْكِر بِنَفْسِهِ، أَوْ يَأْمُر مَن يَفْعَلهُ، وَيَنْزِع الْغُصُوبَ وَيَرُدَّهَا إِلَى أَصْحَابهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ بِأَمْرِهِ إِذَا أَمْكَنَهُ وَيَرْفُق فِي التَّغْيِير جَهْده بِالْجَاهِلِ وَبِذِي الْعِزَّة الظَّالِم الْمَخُوف شَرّه ; إِذْ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى قَبُول قَوْله. كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُون مُتَوَلِّي ذَلِكَ مِن أَهْل الصَّلَاح وَالْفَضْل لِهَذَا الْمَعْنَى. وَيُغْلِظ عَلَى الْمُتَمَادِي فِي غَيّه، وَالْمُسْرِف فِي بَطَالَته; إِذَا أَمِنَ أَنْ يُؤَثِّر إِغْلَاظُه مُنْكَرًا أَشَدّ مِمَّا غَيَّرَهُ لِكَوْنِ جَانِبه مَحْمِيًّا عَن سَطْوَة الظَّالِم. فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنّه أَنَّ تَغْيِيرَهُ بِيَدِهِ يُسَبِّبُ مُنْكَرًا أَشَدّ مِنْهُ مِن قَتْله أَوْ قَتْل غَيْره بِسَبَبٍ كَفَّ يَدَهُ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْقَوْل بِاللِّسَانِ وَالْوَعْظ وَالتَّخْوِيف. فَإِنْ خَافَ أَنْ يُسَبِّب قَوْله مِثْل ذَلِكَ غَيَّرَ بِقَلْبِهِ، وَكَانَ فِي سَعَة، وَهَذَا هُوَ الْمُرَاد بِالْحَدِيثِ إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى وَإِنْ وَجَدَ مَن يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ اِسْتَعَانَ مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى إِظْهَار سِلَاحٍ وَحَرْبٍ، وَلْيَرْفَع ذَلِكَ إِلَى مَن لَهُ الْأَمْر إِنْ كَانَ الْمُنْكَر مِن غَيْره، أَوْ يَقْتَصِر عَلَى تَغْيِيره بِقَلْبِهِ. هَذَا هُوَ فِقْه الْمَسْأَلَة، وَصَوَاب الْعَمَل فِيهَا عِنْد الْعُلَمَاء وَالْمُحَقِّقِينَ خِلَافًا لِمَنْ رَأَى الْإِنْكَار بِالتَّصْرِيحِ بِكُلِّ حَالٍ وَإِنْ قُتِلَ وَنِيل مِنْهُ كُلّ أَذَى. هَذَا آخِر كَلَام الْقَاضِي(2):

 

د- التبليغ بالعمل: ونقصد به إقامة مشروع دعوي من بناء مسجد، أو مدرسة، أو مكتب دعوي، أو مركز إسلامي، وهكذا. فالنبي غ كان يلقي الدروس في المسجد، ويلقى الوفود فيه، ويوجه الصحابة منه، فبناء مثل هذه المشاريع من الوسائل المفيدة للدعوة.

 

هـ - التبليغ بالقدوة: من الوسائل المهمة الدعوية التبليغ بالقدوة، فالسيرة الطيبة للداعية، وأفعاله الحميدة، وأخلاقه الحسنة؛ أسوة طيبة، وقدوة نموذجية لغيره من المدعوين، ودعوة عملية للإسلام، لأن التأثر بالأفعال، أبلغ من التأثر بالكلام. وإن الإسلام انتشر في كثير من بلاد العالم بالسيرة الحسنة للمسلمين، وكانت سيرهم دعوة صامتة إلى الإسلام. وكان النبي صلى الله عليه وسلم داعياً بالقدوة كما كان داعياً بالقول والعمل، ولذا أمر الله تعالى الأمة التأسي به، كما قال تعالى:﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا﴾ [سورة الأحزاب: 21]، والنبي صلى الله عليه وسلم يحث أمته على الاقتداء به، فقال عن الصلاة: صلوا كما رأيتموني أصلي.كما جاء في الحديث: عَن أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ: أَتَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا رَفِيقًا، فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدْ اشْتَهَيْنَا أَهْلَنَا أَوْ قَدْ اشْتَقْنَا، سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا. فَأَخْبَرْنَاهُ. قَالَ: ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَأَقِيمُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَمُرُوهُمْ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ أَحْفَظُهَا أَوْ لَا أَحْفَظُهَا، وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، فَإِذَا حَضَرَت الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ(3)

وقال في الحج: خذوا عني مناسككم فعن عن جَابِر رضي الله عنه قال: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ؛ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ«(4)

وفي مسند أحمد عَن جَابِرٍرضي الله عنه قَالَ: «دَفَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَأَوْضَعَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ، فَأَرَاهُمْ مِثْلَ حَصَى الخَذْفِ، وَأَمَرَهُمْ بِالسَّكِينَةِ، وَقَالَ: لِتَأْخُذْ أُمَّتِي مَنْسَكَهَا، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاهُمْ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا«(5)

 

خلاصة الكلام في هذا الباب أن يكون الداعي صاحب خلق طيب، كما قال تعالى عن نبيه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [سورة القلم: 4]، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن، حينما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم. قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَوْلَ الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ الحديث (6). وقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ«(7).

 

وأن لا يخالف فعله قوله، لأن موافقة العمل للقول من أوصاف عباد الله المتقين، وإن النفوس البشرية مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه، ولهذا حذر الله المؤمنين من مخالفة فعلهم لقولهم، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٢﴾ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [ سورة الصف: 2-3]، ولهذا قال شعيب لقومه : ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّـهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [سورة هود: 88]، فليحرص الداعية على موافقة العمل للقول، لأن هذا أدعى للقبول.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان, برقم: (49).

(2) شرح صحيح مسلم للنووي، المجلد الأول، 2/25.

(3) صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة, برقم: (631).

(4) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً، برقم: (1297).

(5) مسند أحمد، برقم: (3/335).

(6) مسند أحمد، برقم: (6/91).

(7) مسند أحمد، برقم: (2/381).



بحث عن بحث