سمات الداعية

16-  العمل بالحكمة بمعرفة المكان والزمان والحال التي يمارس فيها الدعوة، فالحكمة وضع الشيء في موضعها، فكل ذلك يعين على نجاح دعوته، والسير فيها سيراً حسناً. وقد أمر الله تعالى نبيه ﷺ بها، فقال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [سورة النحل: 125].

 

ومن الحكمة: اختيار الوقت المناسب للدعوة، وهذا ما نجده في قصة يوسف حين جاءه الفتيان وقصا عليه رؤياهما واستفسرا التعبير, فاغتنم الفرصة ودعاهما إلى التوحيد والبراءة من الشرك قبل أن يخبرهما بالتعبير. قال تعالى: ﴿ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴿٣٦﴾ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ.... إلى أن قال: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّـهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴿٣٩﴾ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّـهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لما فرغ من الدعوة إلى التوحيد أخبرهما بتعبير رؤيا هما, فقال: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ۖ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ ۚ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾[سورة يوسف: 36-41].

 

ومنها: اختيار المكان المناسب للدعوة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار المسجد لتوجيه الصحابة إلى الخير, فيختار الداعية لدعوته المسجد, أو مكاناً هادئاً, بعيدًا عن الأسواق والشوارع التي فيها شغب وصخب ونحو ذلك.

 

 

ومنها: اختيار الموضوع المناسب للدعوة, لأن لكل فنٍ رجالاً, ولكل مقامٍ مقالاً, فيختار الموضوع المناسب للمقام, حتى لا يثقل على المدعوين, وبالتالي يفقد استجابتهم لكلامه.

 

ومنها: مراعاة أحوال المدعوين, هل هم الجمهور من العوام, أو النخبة المثقفة منهم، أو من الطلاب, أو الطالبات, أو الأطباء, أو الدعاة وهكذا. فيلزم الداعية إعطاء كل ذي حق حقه، في نوعية الخطاب والكلام، فالرجال يختلفون عن النساء، والصغار يختلفون عن الكبار، وهكذا.

 

ومنها: تنوع البرامج: البرامج الدعوية إذا كانت على نمط واحد فإن المدعو قد يمل، لذا لا بد من تقديم البرامج المتنوعة، إذا كانت البرامج متنوعة تشد انتباه المستمعين، وتترك أثرًا عميقًا في قلوبهم ومن ثمّ على سلوكهم. وأن تكون على فترات متباعدة مخافة السآمة كما جاء في الحديث عَن أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ الله يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ, فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِن ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ, وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا(1)

قال النووي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث: الِاقْتِصَاد فِي الْمَوْعِظَة, لِئَلَّا تَمَلّهَا الْقُلُوب فَيَفُوت مَقْصُودهَا(2)

 

ومنها: تقدير المصالح والمفاسد الشرعية، فيعمل للمصالح وتكثيرها، ويدرأ المفاسد ويقللها. وهذه قاعدة عظيمة من قواعد الشرع، وأصل عظيم من أصوله، فيتنبه إليه.

وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأشياء مراعاة المصلحة العامة، فعلى سبيل المثال هدم الكعبة وبناؤها من جديد على قواعد إبراهيم عليه السلام، فعَنْ عَائِشَةَ ل زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَن قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ (3) الحديث.

يقول السندي: (لَوْلَا حِدْثَان) الْمَشْهُور كَسْر الْحَاء وَسُكُون الدَّال، وَقِيلَ: يَجُوز بِالْفَتْحَتَيْنِ، أَيْ لَوْلَا قُرْبُ عَهْدهمْ بِالْكُفْرِ، يُرِيد أَنَّ الْإِسْلَام لَمْ يَتَمَكَّن فِي قُلُوبهمْ، فَلَوْ هُدِمَتْ لَرُبَّمَا نَفَرُوا مِنْهُ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ تَغْيِيره عَظِيمًا(4)

وكذلك أمرُ قتل عبد الله بن أُبيّ مع أنه آذى النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من المواقع وبالأخص في حادثة الإفك، ورجع في غزوة أحد مع ثلاثمائة من أصحابه، ومع ذلك لم يقتله لمصلحة الدعوة, وقد استأذن ابنه عبد الله في قتله فنهاه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مَرَّ رسُولُ الله ﷺ عَلَىٰ عَبْدِ الله بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ، وَهُوَ فِي ظِلِّ أَجَمَةٍ، َقَالَ: قَدْ غَبَّرَ عَلَيْنَا ابْنُ أَبي كَبْشَةَ، فَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ الله بْنُ عَبْدِ الله: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ، وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ، لَئِنْ شِئْتَ لآتيَنَّكَ بِرَأْسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ:« لَا، وَلَكِنْ بِرَّ أَبَاكَ، وَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُ«(5)

*          *          *

 

هذه بعض مواضع الحكمة التي يجب على الداعية أن يفقهها ويتعامل بمقتضاها ليصل إلى هدفه المنشود، وتلك بعض الخصال التي إذا اتصف بها الداعي أصبح داعية حقاً إلى الله بعمله قبل أن يكون بكلامه، فيؤتى أجره على ما يقدم للدعوة، ويحوز رضا الرب تبارك وتعالى في دنياه وآخرته، جعلني الله وإياكم كذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب: من جعل لأهل العلم أيامًا معلومةً, برقم: (70)، وصحيح مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب: الاقتصاد في الموعظة برقم (2821).

(2) شرح صحيح مسلم للنووي، (المجلد السادس) (71/164).

(3) صحيح البخاري ، كتاب الحج، باب: فضل مكة وبنيانها, برقم: (1583).

(4) شرح سنن النسائي للسندي، المجلد الثالث، 5/ 214.

(5) المعجم الأوسط للطبراني، 1 / 80 ،برقم :(229)، وذكره الهيثمي، كتاب: علامات النبوة، باب: في عبدالله بن عبدالله بن سلول، برقم :(15761)، وقال: رواه البزار ورجاله ثقات.



بحث عن بحث