التسديد والمقاربة في العبادة (1)

حديث: ما من أحد يدخل الجنة بعمله

 

1- عن أبي هريرة س قال: قال رسول الله ق: «لن ينجي أحدا منكم عمله» قالوا، ولا أنت يا رسول الله قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا».

 

2- وعن عائشة ك أن رسول الله ق قال: «سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحدا الجنة عمله» قالوا، ولا أنت يا رسول الله قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة».

 

3- وفي رواية عنها: «سددوا وقاربوا واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة ، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل».

 

سبق في المقدمة، القول بأن التَسْديدُ هو: التوفيقُ للسداد، وهو الصوابُ والقصدُ من القول والعمل.

 

وقيل: السد إغلاق الخلل وردم الثلم. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } [الأحزاب:70].

 

قال ابن رجب: المقاربة: أن يقارب الغرض وإن لم يصبه؛ لكن يكون مجتهدا على الإصابة فيصيب تارة ويقارب تارة أخرى، أو تكون المقاربة لمن عجز عن الإصابة كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن: 16]، منه الحديث: “إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم”([1]).

 

الحث على المقاربة والسداد في الأعمال:

إن العبد لا يمكنه أن يدوم على هيئة واحدة، وصفة مستمرة، ومزاج صاف، ولكنه ساعة وساعة، فمرة يكون نشيطا، ومرة يصيبه الفتور، ومرة يكون صحيحا، ومرة يصيبه المرض، ومرة يكون فارغا، ومرة ينشغل، ومرة تنشرح نفسه، ومرة تنقبض، ومرة يفتح له ومرة يغلق عليه، ومرة يقوى إيمانه ومرة يضعف.

 

فينبغي للمسلم أن يعبد الله، ويعمل الصالحات، ويجتهد في كسب الحسنات، من خلال ذلك، فإذا تصور المسلم حديث الباب، في التسديد، والمقاربة، والقصد، والسير في الدلجة، علم أن لكل حالة من حالاته التي سبق بيانها، ما يناسبه من العبادة، والعمل الصالح.

 

وقد أرشد النبي ق أمته إلى استغلال تلك الفترات، وتلك الحالات، ليسدد في واحدة، ويقارب في مقابلها، فقال ق كما في حديث ابن عباس: “اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك و صحتك قبل سقمك و غناك قبل فقرك و فراغك قبل شغلك و حياتك قبل موتك”([2]).

 

ففي هذا الحديث يحث النبيق أمته على استغلال المناسبات والأحوال التي تمر به، من أجل العبادة، والعمل الصالح، فيسدد، لما يكون شابا يافعا يستطيع أن يعبد الله بأنواع من العبادات المختلفة، فإذا هرم، فإنه يقارب، في تلك العبادات، ويعبد الله تعالى، ويعمل بقدر ما أعطاه الله تعالى، ولن يخيب ظنه، بل تكفي مقاربته بأن يجزيه الله خير الجزاء، بل قد يكتب له العمل كاملا كما كان يعمله شابا، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي بردة س قال: قال رسول الله ق: “إذا مرض العبد، أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا”([3]).

 

وفي معنى المقدمة السابقة، تأتي قصة حنظلة، ففي صحيح مسلم من حديث أبى عثمان النهدى عن حنظلة الأسيدى قال - وكان من كتاب رسول الله ق قال: لقينى أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول! قال: قلت: نكون عند رسول الله ق يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عند رسول الله ق عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فو الله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله ق قلت نافق حنظلة يا رسول الله. فقال رسول الله ق: “وما ذاك”؟. قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسيناكثيرا. فقال رسول الله ق: “والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفى الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفى طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة”. ثلاث مرات([4]).

 

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين/ في شرح هذا الحديث: (يعني ساعة للرب عز وجل، وساعة مع الأهل والأولاد، وساعة للنفس حتى يعطي الإنسان لنفسه راحتها ويعطي ذوي الحقوق حقوقهم، وهذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها أن الله عز وجل له حق فيعطى حقه عز وجل، وكذلك للنفس حق فتعطى حقها وللأهل حق فيعطون حقوقهم وللزوار والضيوف حق فيعطون حقوقهم حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة ويتعبد لله عز وجل براحة؛ لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه وشدد عليها مل وتعب وأضاع حقوقا كثيرة، وهذا كما يكون في العبادة وفي حقوق النفس والأهل والضيف يكون كذلك أيضا في العلوم، فإذا طلب الإنسان العلم ورأى في نفسه مللا في مراجعة كتاب ما فلينتقل إلى كتاب آخر، وإذا رأى من نفسه مللا من دراسة فن معين فإنه ينتقل إلى دراسة فن آخر، وهكذا يريح نفسه ويحصل علما كثيرا، أما إذا أكره نفسه على الشيء حصل له من الملل والتعب ما يجعله يسأم وينصرف إلا ما شاء الله)([5]).


([1]) أخرجه البخاري(ص: 1254 رقم 7288) كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن المرسلين، ومسلم (ص: 564 رقم 1337) كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر.

([2]) أخرجه الحاكم في المستدرك(4: 341 رقم 7846). وأخرجه النسائي في السنن الكبرى(10: 400 رقم 11832 ) من حديث عمرو بن ميمون. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

([3]) أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 495 رقم 2996). كتاب الجهاد والسير~، باب يكتب للمسافر ما كان يعمل في الإقامة .

([4]) أخرجه مسلم (ص: 1191 رقم 2750)، كتاب التوبة، باب فضل الدوام على الذكر.

([5]) شرح رياض الصالحين(2: 235) مع بعض التصرف.



بحث عن بحث