الوقفة الأولى (1-2)

      أولاً: وقفة عند قول سفيان بن عبد الله الثقفي:

»قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك«

يظهر من هذا الجزء من الحديث: ما كان عليه الصحابة من الحرص على طلب الفائدة، فقد طلب سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه كلاماً جامعاً لأمر الإسلام لا يحتاج بعده إلى غيره، ومن حق المسلم إذا استنصح أخاه المسلم أن ينصحه، وهنا يدله النبي صلى الله عليه وسلم على أمر جامع بكلمات موجزة، تمثل منهجاً متكاملاً جمع ركنيه العظيمين، وهما: الإيمان، والعمل. فعلى المسلم وهو يخطو خطواته في هذه الحياة متجهاً إلى الدار الآخرة أن يحرص على طلب العلم والخير حتى يعلمه ويعمل به، ولذا قد عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم على إعراضه عن ابن أم مكتوم عندما جاءه يسأل عن الإسلام، فعن عائشة لقالت: أنزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ}(1)  في ابن أم مكتوم الأعمى، فقالت: أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: أرشدني. قالت: وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين، قالت: فجعلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول: «أترى بما أقول بأساً»؟ فيقول: لا، ففي هذا أنزلت: {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ}(2)

وهكذا كان منهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب الفقه في دين الله، وإليك بعض النماذج:

      عن عطاء بن يسار قال: «لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}(3)  وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل«(4).

      عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أعرابياً قال: يا رسول الله! أخبرني عن الهجرة. فقال: «ويحك، إن شأن الهجرة شديد، فهل لك من إبل»؟ قال: نعم. قال: «فهل تؤدي صدقتها؟» قال: نعم. قال: «فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئاً«(5).

      عن عمرو بن عبسة السلمي قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفِياً جرءاء عليه قومُه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: «أنا نبي» فقلت: وما نبي؟ قال: «أرسلني الله»، فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: «أرسلني بصِلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء» قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: «حر وعبد». قال: ومعه يومئذٍ أبو بكر وبلال ممن آمن به، فقلت: إني متبعك. قال: «إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني» قال: فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عله وسلم المدينة وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الأخبار، وأسأل الناس حين قدم المدينة، حتى قدم عليَّ نفر من أهل يثرب من أهل المدينة، فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله! أتعرفني؟ قال: «نعم، أنت الذي لقيتني بمكة؟» قال: فقلت: بلى، فقلت: يا نبي الله، أخبرني عما علمك الله وأجهله؟ أخبرني عن الصلاة؟ قال: «صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس«(6).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [عبس:1]

(2) رواه الحاكم في (المستدرك) (2/558)، وابن حبان في (صحيحه) (2/ 293)، وأبو يعلى في (مسنده) (8/ 261).

(3) [الأحزاب: 45]

(4) رواه البخاري في البيوع، باب كراهية السخب في السوق (2125) وفي التفسير، باب ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ (4838).

(5) رواه البخاري في الأدب، باب ما جاء في قول الرجل: ويلك (6165)، ومسلم في الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير (1865).

(6) رواه مسلم في صلاة المسافرين، باب إسلام عمرو بن عبسة (832).



بحث عن بحث