قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب الكفالة)

 

حدثنا أبو عاصم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بجنازة ليصلي عليها فقال: هل عليه من دين؟ قالوا: لا، فصلى عليه ثم أُتي بجنازة أخرى فقال له: عليه من دين؟ قالوا: نعم، قال: فصلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: عليّ دينه يا رسول الله، فصلى عليه)).

المبحث الأول: التخريج:

انفرد البخاري عن مسلم بإخراج هذا الحديث، وقد أورده في موضعين: أحدهما هذا في (باب من تكفل عن ميت دينا فليس له أن يرجع). والثاني في (كتاب الحوالة، في باب: إذا أحال دين الميت على رجل جاز)، ولفظه: حدثنا المكي بن إبراهيم حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: ((كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أُتى بجنازة فقالوا: صلّ عليها، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: لا، قال: فهل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أُتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله صلّ عليها، فقال: هل عليه دين؟ قيل: نعم، قال: فهل ترك شيئاً؟ قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها، ثم أُتي بالثالثة، فقالوا: صلّ عليها، قال: هل ترك شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فهل عليه دين؟، قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: صلّ عليه يا رسول الله وعَليَّ دَينه، فصلى عليه)).

ورواه النسائي في سننه ولفظه: ((أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فقالوا: يا نبي الله صلّ عليها، قال: هل ترك عليه دَيناً؟، قالوا: نعم، قال: هل ترك من شيء؟، قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم، قال رجل من الأنصار، يقال له أبو قتادة: صلّ عليه وعَليَّ دَينه، فصلى عليه)).

ورواه الترمذي والنسائي عن أبي قتادة رضي الله عنه بإسناد واحد واللفظ عند النسائي: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي برجل من الأنصار ليصلِّيَ عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صلوا على صاحبكم فإن عليه دَيناً. قال أبو قتادة: هو عليَّ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: بالوفاء؟ قال: بالوفاء، فصلى عليه)).

ورواه أبو داود والنسائي عن جابر رضي الله عنه ولفظه: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات وعليه دين، فأُتى بميت، فقال: أعليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة الأنصاري: هما عليَّ يا رسول الله، قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك ديناً فعليَّ وفاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته)). وروى أبو هريرة رضي الله عنه نحواً من حديث جابر هذا، أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي، وأورد المنذري في الترغيب والترهيب حديث جابر رضي الله عنه بلفظ أطول من هذا، وقال: رواه أحمد بإسناد حسن والحاكم والدار قطني، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ورواه أبو داود وابن حبان في صحيحه باختصار.

وقال فيه الهيثمي في (مجمع الزوائد): رواه أحمد والبزار وإسناده حسن، وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد): وعن أسماء بنت يزيد قالت: ((دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة رجل من الأنصار، فلما وضع السرير تقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ثم التفت، فقال: على صاحبكم دين؟ قالوا: نعم يا رسول الله، ديناران، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: أنا بدينه يا نبي الله فصلّ عليه))، رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات.

 

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ البخاري أبو عاصم: وهو كما قال الحافظ في (تقريب التهذيب): الضحاك بن مَخلد بن مسلم الشيباني، أبو عاصم النبيل البصري، ثقة، ثبت، من التاسعة، مات سنة اثنتي عشرة أو بعدها، أي بعد المائتين.

وقال في (تهذيب التهذيب): قيل إنه مولى بني شيبان، وقيل من أنفسهم، روى عن يزيد بن أبي عبيد، وابن أبي ذئب، وابن جريج، والأوزاعي، وأناس آخرين سماهم. وعنه جرير بن حازم ـ وهو من شيوخه ـ، والأصمعي والخريبِي وهما من أقرانه، وأحمد، وإسحاق، وعليّ بن المديني، وغيرهم. ثم قال: قال عثمان الدارمي عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: ثقة كثير الحديث، وكان له فقه. وقال أبو حاتم: صدوق، وهو أحب إليَّ من روح بن عبادة. وقال ابن سعد: كان فقيهاً. وقال عمر بن شبة: ((والله ما رأيت مثله)). وقال ابن خراش: ((لم ير في يده كتاب قط)). وقال الخليلي: ((متفق عليه زهداً، وعلماً، وديانة، واتقاناً)).

وقال ابن طاهر المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): قال عمرو بن عليّ: سمعت أبا عاصم يقول: ولدت سنة اثنتين وعشرين ومائة، ومات سنة اثنتي عشرة ومائتين وهو ابن تسعين سنة وأربعة أشهر. وقال أيضاً: ولدت أمي في سنة عشر ومائة، وولدت سنة اثنتين وعشرين ومائة، يعني ولدتني أمي في اثنتي عشر سنة. انتهى.

ونقل عنه الخزرجي في (الخلاصة) أنه قال: ((من طلب الحديث فقد طلب أعلى الأمور، فيجب أن يكون خير الناس)). وقال: قال الخطيب: روى عنه جرير بن حازم، ومحمد بن حبان، وبين وفاتهما مائة وإحدى وثلاثون سنة، وقد خرج حديثه الجماعة.

الثاني: يزيد بن أبي عبيد: وهو يزيد بن أبي عبيد الحجازي، أبو خالد الأسلمي مولى سلمة بن الأكوع، روى عن مولاه، وعمير مولى لآبي اللحم، وهشام بن عروة وهو أكبر منه. روى عنه بكير بن الأشج ومات قبله، ويحيى القطان، وحاتم بن إسماعيل، والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي، ويحيى بن راشد، وحماد بن مسعدة، وصفوان بن عيسى، ومكي بن إبراهيم، وأبو عاصم وغيرهم. قاله الحافظ في (تهذيب التهذيب).

وقال الآجري على أبي داود: ثقة، وذكره ابن حبان في (الثقات). وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة. وقال العجلي: حجازي، تابعي، ثقة. وقال ابن سعد: وكان ثقة، كثير الحديث. ذكر ذلك عنهم الحافظ في (تهذيب التهذيب). وقال في (تقريب التهذيب): ثقة، من الرابعة، مات سنة بضع وأربعين ـ أي بعد مائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

الثالث: صحابي الحديث سلمة بن الأكوع: وهو سلمة بن عمرو بن الأكوع واسم الأكوع سنان الأسلمي.

قال الحافظ في (تهذيب التهذيب): أبو مسلم، ويقال: أبو إياس، ويقال: أبو عامر، وقال: شهد بيعة الرضوان، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة. وعنه ابنه إياس، ومولاه يزيد بن أبي عبيد، وأناس آخرون سماهم، ثم قال: كان شجاعاً رامياً، ويقال: كان يسبق الفرس شداً على قدميه.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): له سبعة وسبعون حديثاً، اتفقا على ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة. وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري عشرين حديثاً. انتهى. وكانت وفاته سنة أربع وسبعين، وقد خرّج حديثه الجماعة.

 

المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد الثلاثة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم.

(2) في سند الحديث رجل اشتهر بكنيته ولقبه، وهو شيخ البخاري أبو عاصم النبيل، فإن اسمه الضحاك بن مخلد.

(3) في سند الحديث رجل روى عنه راو متقدم وراو متأخر، وهو أبو عاصم النبيل، قال الخطيب: روى عنه جرير بن حازم ومحمد بن حبان وبين وفاتيهما مائة وإحدى وثلاثون سنة. انتهى. وذلك من شواهد النوع المعروف في المصطلح بالسابق واللاحق، وهو أن يشترك اثنان في الرواية عن شيخ أحدهما فوق الشيخ المروى عنه في المرتبة مع تباعد ما بين وفاتيهما أي الراويين عن الشيخ.

(4) في هذا الإسناد مولى من أعلى وهو سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، ومولى من أسفل وهو يزيد بن أبي عبيد.

(5) ومن اللطائف في رجال الإسناد: أن أبا عاصم النبيل قد ولدته أمه وسنها اثنتا عشرة سنة، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك فيما نقله المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) عن عمرو بن عليّ.

(6) ذكر الحافظ ابن حجر أنه لم يقف على تسمية صاحب الجنازة الأول والثاني وهو من مبهمات المتن.

(7) حديث أبي عاصم النبيل هذا وحديث مكي بن إبراهيم المذكور في التخريج من ثلاثيات صحيح البخاري، والإسناد الثلاثي أعلى ما يكون عند البخاري، فإن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشخاص فقط: صحابي وتابعي وتابع تابعي، وقد حصل العلو في إسناد هذا الحديث، لأن وفاة سلمة بن الأكوع رضي الله عنه كانت سنة أربع وسبعون، وقد عاش مولاه يزيد بن أبي عبيد الذي روى الحديث عنه بعده نحواً من سبعين سنة، إذ كانت وفاته سنة بضع وأربعين ومائة، وعاش أبو عاصم النبيل الذي روى الحديث عن يزيد بن أبي عبيد بعده أكثر من ستين سنة، حيث كانت وفاته سنة اثنتي عشرة بعد المائتين.

فوائد تتعلق بالثلاثيات:

الأولى: الإسناد الثلاثي إسناد عال، والعلو في الإسناد مرغوب فيه عند المحدثين لكونه أقرب إلى الصحة وقلّة الخطأ، لأنه ما من راو من رجال السند إلاّ والخطأ جائز عليه، فكلما كثرت الوسائط وطال السند كثرت مظان تجويز الخطأ، وكلما قلَّت قلت، ومن أجل ذلك لم يرو البخاري عن الشافعي من طريق أصحابه الذين لقي الكثير منهم، لأنه عاصر كثيراً من أقران الشافعي، فروى عنهم مباشرة ما شاركهم الشافعي في روايته رغبة منه في علو الإسناد، وإن كان قد ذكر الشافعي في موضعين من صحيحه في (باب: وفي الركاز الخمس)، وفي (باب: تفسير العرايا)، كما أشار إلى ذلك ابن السبكي في ترجمة البخاري من كتابه (طبقات الشافعية الكبرى).

الثانية: عدد الأحاديث الثلاثية في صحيح البخاري اثنان وعشرون حديثاً، قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) في شرح حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه مرفوعاً: ((من يقل عليَّ ما لم أقل فليتبوأ معقده من النار)). قال: وهذا الحديث أول ثلاثي وقع في البخاري وليس فيه أعلى من الثلاثيات. وقد أفردت فبلغت أكثر من عشرين حديثاً. انتهى.

وقال في (كشف الظنون): ووقع له اثنان وعشرون حديثاً ثلاثيات الإسناد. وقال المباركفوري في مقدمة تحفة الأحوذي: وأما في صحيح البخاري فاثنان وعشرون ثلاثياً، قد أفردها العلماء بالتأليف كعليّ القاري الهروي وغيره. انتهى. وهذه العدة إنما هي بالأحاديث المكررة، وبإسقاط التكرار تكون ستة عشر حديثاً، وقد طبعت ثلاثيات البخاري مفردة ومشروحة.

الثالثة: عدد الصحابة الذين روى البخاري من طريقهم الأحاديث الثلاثية ثلاثة: (الأول) سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، له منها سبعة عشر حديثاً، و(الثاني) أنس بن مالك رضي الله عنه، له منها أربعة أحاديث، و(الثالث) عبد الله بن بسر رضي الله عنه، له منها حديث واحد.

أما شيوخه الذين روى عنهم هذه الثلاثيات فعدتهم خمسة وهم: مكي بن إبراهيم، وأبو عاصم النبيل، وعصام بن خالد، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وخلاد بن يحيى، وهم من أتباع التابعين. وأما شيوخ شيوخه فيها فعدتهم أربعة وهم: يزيد بن أبي عبيد، وحميد الطويل، وحريز بن عثمان، وعيسى بن طهمان، وهم من التابعين.

الرابعة: (أ) في جامع الترمذي ثلاثي واحد أورده في (كتاب الفتن) فقال: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري بن ابنة السدي الكوفي حدثنا عمر بن شاكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر))، هذا حديث غريب من هذا الوجه. انتهى.

قال المباركفوري في مقدمة تحفة الأحوذي: اعلم أنه ليس في جامع الترمذي ثلاثي غير حديث أنس المذكور. وقال: وليعلم أن بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم  في إسناد ثلاثي الترمذي المذكور اثنين وعشرين واسطة. فذكرهم، وكانت وفاة المباركفوري سنة 1353هـ رحمه الله. وعمر بن شاكر انفرد الترمذي بإخراج حديثه عن بقية أصحاب الكتب الستة، وقال الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب): إنه ضعيف.

(ب) في سنن ابن ماجه خمسة أحاديث ثلاثيات الإسناد كلها من طريق جبارة بن المغلس عن كثير بن سليم عن أنس رضي الله عنه ثلاثة منها في (كتاب الأطعمة)، وفي (كتاب الزهد) واحد، وواحد في (كتاب الطب)، وجبارة وكثير انفرد ابن ماجه عن بقية أصحاب الكتب الستة بأخراج حديثهما، وقال عنهما الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب): إنهما ضعيفان.

(ج) ذكر المباركفوري في مقدمة تحفة الأحوذي نقلا عن كتاب (الحطة) أنه ليس في صحيح مسلم ولا في سنن أبي داود والنسائي شيء من الأحاديث الثلاثيات الإسناد، فأعلى ما يكون عندهم الأحاديث الرباعيات الإسناد.

(د) ذكر المباركفوري أيضاً نقلا عن كتاب (الحطة) أن ثلاثيات الدارمي أكثر من ثلاثيات البخاري، وقال صاحب (كشف الظنون): ثلاثيات الدارمي هي خمسة عشر حديثاً وقعت في مسنده بسنده.

(هـ) ثلاثيات مسند الإمام أحمد عددها واحد وثلاثون وثلاثمائة، قد أفردت من المسند وشرحها الشيخ محمد السفاريني شرحاً نفيساً في مجلدين كبيرين.

(و) ثلاثيات مسند عبد بن حميد عددها واحد وخمسون حديثًا (1).

 

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) أورد البخاري الحديث في (كتاب الكفالة) في (باب: من تكفل عن ميت دَينا فليس له أن يرجع). ووجه مطابقة الحديث للترجمة كما ذكر الحافظ في (فتح الباري): أنه لو كان لأبي قتادة أن يرجع عن الكفالة لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على الرجل المدين حتى يوفي أبو قتادة الدين، لاحتمال أن يرجع فيكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى على مدين دينه باق عليه، فدل على أنه ليس له أن يرجع. وأورده أيضاً في (كتاب الحوالة) من طريق مكي بن إبراهيم في (باب: إذا أحال دين الميت على رجل جاز)، ووجهه كما نقل الحافظ في (الفتح) عن ابن بطال أنه قال: إنما ترجم بالحوالة فقال: إن أحال دين الميت. ثم أدخل حديث سلمة وهو في الضمان لأن الحوالة والضمان عند بعض العلماء متقاربان، وإليه ذهب أبو ثور لأنهما ينتظمان في كون كل منهما نقل ذمّة رجل إلى ذمّة رجل آخر، والضمان في هذا الحديث نقل ما في ذمّة الميت إلى ذمة الضامن فصار كالحوالة سواء.

(2) قوله (إذ أُتي بجنازة): قال في القاموس: الجنازة الميت ويفتح، أو بالكسر الميت، وبالفتح السرير أو عكسه، وبالكسر السرير مع الميت. انتهى.

وقد أعيد الضمير مؤنثاً في قوله: ليصلى عليها. باعتبار لفظ الجنازة وهو مؤنث، ومذكراً في قوله: ((هل عليه من دين)) باعتبار المعنى وهو الميت، وقد زيدت (من) قبل المبتدأ المنكر في قوله: ((هل عليه من دين)) لتأكيد إفادة العموم في جنس الدين، أي: هل عليه دين؟، أيُّ دَين كان، قليلاً كان أو كثيراً.

(3) اشتمل هذا الحديث على ذكر جنازتين: سليم من الدَّين صلى عليه، ومدين أراد ترك الصلاة عليه لو لم يتحمل عنه دينه، وقد ذكر جنازة ثالثة في طريق مكي بن إبراهيم المذكور في التخريج، وهو مَن عليه دين وترك وفاء له وقد صلى عليه.

(4) لم يبين في الحديث قدر الدين، وقد بين في طريق مكي بن إبراهيم بأنه ثلاثة دنانير، قال الحافظ في (الفتح): وفي حديث جابر عند الحاكم ديناران، وأخرجه أبو داود من وجه آخر عن جابر نحوه، وكذلك أخرجه الطبراني من حديث أسماء بنت يزيد، ويجمع بينهما بأنه كان دينارين وشطراً، فمن قال ثلاثة جبر الكسر، ومن قال ديناران ألغاه، أو كان أصلهما ثلاثة، فوفى قبل موته ديناراً وبقي عليه ديناران، فمن قال ثلاثة فباعتبار الأصل، ومن قال ديناران فباعتبار ما بقي من الدين والأول أليق.

ووقع عند ابن ماجه من طريق أبي قتادة: ثمانية عشر درهماً، وهذا دون دينارين، وفي مختصر المزني من حديث أبي سعيد الخدري درهمين، ويجمع إن ثبت بالتعدد. ورجّح الشوكاني في (نيل الأوطار) القول بتعدد القصة مطلقاً.

وقال الحافظ في (الفتح) أيضاً: وقد وقعت هذه القصة مرة أخرى، فروى الدار قطني من حديث عليّ: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بجنازة لم يسأل عن شيء من عمل الرجل ويسأل عن دينه، فإن قيل عليه دين كفَّ، وإن قيل ليس عليه دين صلّى، فأتي بجنازة، فلما قام ليكبر سأل: هل عليه دين؟ فقالوا: ديناران، فعدل عنه فقال عليّ: هما عَليّ يا رسول الله، وهو بريء منهما فصلّى عليه، ثم قال لعليٍّ: جزاك الله خيراً وفك الله رهانك)) الحديث.

(5) لم يبين في هذا الحديث سبب السؤال عن الميت: هل عليه دين؟ وقد بين ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الشيخين قال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل: هل ترك لدينه وفاء؟ فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء، صلّى، وإلاّ قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: ((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك ديناً فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته)).

(6) قال الحافظ في (الفتح): قال العلماء: كأن الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة على من عليه دين ليحرض الناس على قضاء الدين في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منها، لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهل كانت صلاته على من عليه دين محرمة عليه أو جائزة؟ وجهان: قال النووي: الصواب الجزم بجوازه مع وجود الضامن، كما في حديث مسلم، وحكى القرطبي أنه ربما كان يمتنع من الصلاة على من استدان ديناً غير جائز، وأما من استدان لأمر هو جائز فما كان يمتنع، وفيه نظر، لأن في حديث الباب ـ يعني حديث أبي هريرة ـ ما يدل على التعميم حيث قال: ((من توفي وعليه دين))، ولو كان الحال مختلفاً لبينه، ثم أورد حديثاً عن ابن عباس فيه التفصيل بين التحمل في البغي والإسراف، والتحمل في الحاجة، وقال: وهو ضعيف، وقال: قال الحازمي بعد أن أخرجه: لا بأس به في المتابعات، وقال: وليس فيه أن التفصيل المذكور كان مستمراً، وإنما فيه أنه طرأ بعد ذلك وأنه السبب في قوله: ((من ترك ديناً فعليَّ)). وقال الشوكاني في (نيل الأوطار): قال ابن بطال: هذا يعني من ترك ديناً فعلي. ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين، وقد حكى الحازمي إجماع الأمة على ذلك.

(7) أبو قتادة الذي تحمل الدين في الحديث: هو الحارث، ويقال: عمرو، ويقال: النعمان بن ربعي الأنصاري السلمي ـ بفتحتين ـ المدني، شهد أُحداً وما بعدها ولم يصح شهوده بدراً، ومات سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وثلاثين والأوّل أصح وأشهر، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في (التقريب)، ورمز لكون حديثه مخرجاً في الكتب الستة.

(8) همَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بترك الصلاة على من عليه الدَّين، في الحديث حصل فيه فائدتان: إحداهما تعود إلى المتوفى وهي: أن أبا قتادة رضي الله عنه رقَّ له فتحمل دينه، فبرئت ذمته بذلك، والثانية تعود إلى الأحياء وهي: التحذير من الدَّين والتحريض على قضائه قبل الموت لئلا تترك الصلاة عليهم.

(9) صلاة الجنازة من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، والمتوفى أحوج ما يكون إلى ذلك الحق، فجدير بالمسلم أن يحرص على بذل هذا الحق لإخوانه المسلمين، لأنه يحب ذلك لنفسه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((ومن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يُؤتى إليه))، ولما في ذلك من الفائدة للمتوفى وللمصلي، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من صلى على الجنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان، قيل: وما القيراط يا رسول الله؟ قال: مثل جبل أُحد)).

(10) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) وجوب صلاة الجنازة وهي من حق المسلم على أخيه المسلم لقوله: ((فصلوا على صاحبكم)).

(2) أن صلاة الجنازة فرض كفاية حيث أراد النبي صلى الله عليه وسلم التخلي عنها لو لم يتحمل الدَّين عن الميت.

(3) أنه ينبغي لذوي الميت الاهتمام بشهود أهل الفضل والصلاح الصلاة على ميتهم.

(4) سؤال الإمام عن أحوال الرعية.

(5) مشروعية الضمان.

(6) جواز تحمل الدين عن الميت.

(7) براءة ذمة الميت بأداء غيره ما وجب عليه.

(8) التنفير من الدين والتحذير من تعاطيه إلاَّ مع الضرورة.

(9) حث المدينين على قضاء ديونهم، وتحريضهم على المبادرة إلى التخلص من تبعتها.

(10) الاكتفاء في لزوم الضمان على الضامن بمجرد التزامه وإن تأخر الأداء.

(11) أن الضامن ليس له الرجوع عن التزامه ما تكفل به.

(12) أن تفويت الإنسان على الناس حقوقهم قد يكون سبباً في تفويت حقه عليه.

(13) أن درأ المفاسد العامة مقدم على جلب المصالح الخاصة.

(14) أن الجزاء من جنس العمل، وأنه كما يدين الإنسان يُدان.

(15) أنه ليس للضامن الرجوع في مال الميت إن ظهر أن له مالاً.

(16) بيان ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من الأخلاق الفاضلة: من الرأفة، والشفقة، والرحمة بعضهم لبعض، فتحمل أبي قتادة رضي الله عنه الدَّين مثال واقعي لما وصفهم الله به في قوله: ( رحماء بينهم ).

(17) تأخير البيان إلى وقت الحاجة.


 


(1)  تنبيه: الحديث الثلاثي عند الترمذي، والخمسة عند ابن ماجه، وثلاثيات الدارمي وعددها خمسة عشر حديثًا، وثلاثيات عبد بن حميد وعددها واحد وخمسون توجد مخطوطة بخط جميل ضمن مجموعة (رقم44) مجاميع في مكتبة عارف حكمت في المدينة المنورة.



بحث عن بحث