المبحث السادسالمسائل الفقهية

المسألة السابعة: هل في المال حق سوى الزكاة؟

استنبط بعض أهل العلم من هذا الحديث: أنه ليس في المال حق سوى الزكاة المفروضة إلا على سبيل التطوع، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم»، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم غيرها شيئًا، فدل على أنه لا يجب حق في المال إلا الزكاة فحسب.

يقول العيني: «العاشر- يعني مما يستفاد من الحديث-: أنه ليس في المال حق واجب سوى الزكاة»(1).

وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: أنه ليس في المال حق سوى الزكاة؛ فمن أخرج زكاة ماله، فقد أدى ما عليه، وبرئت ذمته، واستدل هؤلاء بعدة أدلة، أهمها:

أ- الحديث الذي معنا، وسبق وجه الدلالة منه.

ب- حديث طلحة بن عبيد الله، الذي رواه الشيخان وغيرهما، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات في اليوم والليلة»، فقال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: «لا إلا أن تطوع»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وصيام رمضان»، قال: هل علي غيره؟ قال: «لا إلا أن تطوع»... وذكر الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع»، فأدبر وهو يقول: لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح إن صدق»(2).

ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب عليه في ماله إلا الزكاة، ولو كان شيئًا واجبًا غيرها لبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

القول الثاني: ذهب فريق آخر إلى القول بأن في المال حقًّا سوى الزكاة، وينسب هذا إلى عمر، وعلي، وأبي ذر، وعائشة، والشعبي، ومجاهد، وغيرهم، واستدلوا بعدة أدلة، من أهمها:

أ- قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(3).

ووجه الدلالة من الآية: أن الله-سبحانه وتعالى- ذكر أن- من البر إيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى... إلخ، وعطف على ذلك إيتاء الزكاة، فدلَّ على المغايرة.

ب- ما رواه الترمذي وغيره عن فاطمة بنت قيس، قالت: سألت أو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة، فقال: «إن في المال لحقًّا سوى الزكاة»، ثم تلا هذه الآية التي في البقرة: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}(4)قال الترمذي: «هذا حديث إسناده ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور أحد رواة الحديث يضعف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله: وهذا أصح«(5).

ووجه الدلالة من الحديث صراحة ما ذكر من أن في المال حقًّا سوى الزكاة، ومعلوم أن الحديث ضعيف من جهة إسناده، لكن قال أصحاب هذا القول إن الآية تعضده وتقويه.

ج- كما استدلوا أيضًا بقوله تعالى: {كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(6)

ووجه الدلالة: أن الحق المأمور به في الآية هو شيء غير الزكاة.

والذي يظهر بعد عرض هذين القولين: أن المسافة بين الفريقين قريبة جدًّا؛ إذ أن أهل القول الأول -فيما يبدو، والله أعلم- نظروا إلى الأمر الواجب بصفة ثابتة في المال ودائمة، وأهل القول الثاني نظروا إلى غير ذلك من الحقوق والواجبات الطارئة، وإلا فعند التحقيق نجد أن الفريقين متفقان في كثير من الحقوق كحق الوالد على الولد، وحق الجائع، وحق الضيف، ونحو ذلك(7)، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عمدة القاري (8/ 237).

(2) سبق تخريجه في المسألة الأولى من هذا البحث.

(3) [البقرة: 177].

(4) أخرجه الترمذي في جامعه، كتاب الزكاة، باب ما جاء أن في المال حقاً سوى الزكاة (3/ 39، 0 4)، برقم: (659، 660).

(5) المصدر السابق.

(6) [الأنعام: 141]

(7) ينظر للتفصيل في هذه المسألة: عمدة القاري (8/ 37)، وتفسير الطبري (3/348)، وتفسير القرطبي (2/ 42)، والمحلى، لابن حزم (6/ 156)، وفقه الزكاة (2/ 963).



بحث عن بحث