المبحث السادسالمسائل الفقهية

المسألة الرابعة: هل الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة؟

استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وتوزيعها على مستحقيها.

والشاهد في الحديث قوله: «تؤخذ من أغنيائهم«.

ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن تؤخذ الزكاة من الأغنياء، والذي يأخذها الإمام أو نائبه.

يقول الحافظ ابن حجر :: «قوله: «تؤخذ من أغنيائهم...» استدل به على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها، إما بنفسه، وإما بنائبه، فمن امتنع أخذت منه قهرًا»(1). وهذه المسألة - أعني دفع الزكاة للإمام هل هي على سبيل الوجوب، أم يجوز للمزكي أن يتولى توزيعها بنفسه؟- فيها خلاف بين أهل العلم، ملخصه ما يلي:

القول الأول: أن الزكاة تدفع وجوبًا للإمام العادل في أخذها وصرفها وإن كان جائرًا في غيرها، سواء كانت من الأموال الظاهرة كالمواشي والمؤشرات ونحوها، أو من الأموال الباطنة كالذهب والفضة وعروض التجارة ونحوها، وهذا الرأي مذهب المالكية، مستدلين بما يلي:

أ- حديث ابن عباس، وقد أشرت إلى وجه الدلالة في أول المسألة.

ب- قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}(2).

ووجه الدلالة من الآية: أن الله-سبحانه وتعالى- أمر بأن تؤخذ الصدقة من الأغنياء، ولم يأمرهم بأن يتولوها بأنفسهم.

ج- ما رواه الشيخان في مقاتلة أبي بكر رضي الله عنه لمانعي الزكاة، فمما قال: «والله لو منعوني عناقًا - وفي رواية: عقالاً- كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها»(3)، وأقره الصحابة رضوان الله عليهم.

القول الثاني: وهو النظر إلى الأموال الباطنة والظاهرة، فالأموال الظاهرة تعطى للإمام، والأموال الباطنة مفوضة إلى أربابها ليَلوا تفريقها بأنفسهم، وهذا هو مذهب الأحناف، مستدلين بما سبق الاستدلال به للمذهب الأول، لكنهم خصوه في الأموال الظاهرة دون الباطنة، وقد كانت في الأصل للإمام ثم ترك أداؤها إليهم منذ عهد عثمان رضي الله عنه حيث رأى المصلحة في ذلك، ووافقه الصحابة رضوان الله عليهم فصار أرباب الأموال كالوكلاء عن الإمام(4).

القول الثالث: أنه لا يجب دفعها إلى الإمام، ولكن له أخذها سواء كان الإمام عادلاً أو غير عادل، وهذا رأي الشافعية والحنابلة. قال ابن قدامة: «ويستحب للإنسان أن يلي تفرقة الزكاة بنفسه؛ ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقيها، سواء كانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة، قال الإمام أحمد: أعجب إلي أن يخرجها، وإن دفعها إلى السلطان فهو جائز«(5).

واستدل أصحاب هذا الرأي: بأنه إذا دفعها إلى مستحقيها، فإنه دفع الحق إلى مستحقه الجائز تصرفه، فأجزأه كما لو دفع الدين إلى غريمه، وكزكاة الأموال الباطنة، فهو أحد نوعي الزكاة، فأشبه النوع الآخر(6).

ومما استدلوا به: أنه إذا دفعها بنفسه كان أوثق في وصولها إلى مستحقيها، وليباشر العبادة بنفسه، وليخص الأقارب والجيران والأحق(7).

وقد أجاب هؤلاء عن أدلة القائلين بالقول الأول: بأن الآية التي استدلوا بها تدل على أن للإمام أخذها، ولا خلاف في ذلك، أما مقاتلة أبي بكر لمانعي الزكاة لكونهم لم يؤدوها إلى أهلها، ولو أدوها إلى أهلها لم يقاتلهم عليها؛ لأن ذلك مختلف في إجزائه، فلا تجوز المقاتلة من أجله، وإنما يطالب الإمام بحكم الولاية والنيابة عن مستحقيها، فإذا دفعها إليهم جاز لأنهم أهل رشد، فجاز الدفع إليهم(8).

ومع اختلاف العلماء في هذه المسألة إلا أنه يظهر اتفاقهم على أمرين:

أ- أن من حق الوالي أن يطالب الرعية بالزكاة في أي نوع من أنواع الأموال.

2-أن الوالي إذا لم يطالب بالزكاة لا تسقط عن أرباب الأموال، فعليهم إخراجها وإيصالها إلى مستحقيها(9). والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) فتح الباري (3/ 360).

(2) [التوبة: 103].

(3) ينظر: صحيح البخاري بشرحه فتح الباري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (3/ 262)، برقم: (1400)، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس. حتى يقولوا لا إله إلا الله.. إلخ (1/51، 52).

(4) ينظر: حاشية ابن عابدين (2/ 5).

(5) المغني (4/92).

(6) ينظر المرجع السابق.

(7) ينظر: روضة الطالبين (2/205).

(8) ينظر: المغني (4/94).

(9) ينظر في هذه المسألة: المغني (4/ 92- 95)، وروضة الطالبين (2/ 204- 206)، وبدائع الصنائع (2/ 35، 36)، ومنح الجليل (2/100)، ومغني المحتاج (13/41، 414)، والروض المربع (3/297)، وفقه الزكاة (1/ 758)، وعمدة القاري (8/ 238).



بحث عن بحث