المبحث الخامس: مسائل علم الأصول والمصطلح

أقول: وهذه المسألة -أعني مخاطبة الكفار بفروع الشريعة- وقع فيها خلاف بين العلماء، ملخصه على النحو التالي:

القول الأول: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، كالصلاة والزكاة، وتحريم الزنا والخمر، ونحو ذلك، وهذا ظاهر مذهب الإمام مالك، وعند أكثر الشافعية، والرواية المشهورة عند أحمد، والأشعرية.

واستدل أصحاب هذا الرأي بعدة أدلة منها:

أ- الأوامر العامة، مثل قوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ}(1) والكفار من جملة الناس، وقوله تعالى: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ۚ ذَٰلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ۚ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}(2)، وهم من جملة العباد، وقوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(3)، وهم من ضمن بني آدم، وغيرها.

ب- ما ورد من الوعيد للكفار على الترك، مثل ما جاء في قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}(4)، فرتب وجودهم في سقر على ترك هذه الأعمال التي تركوها في الدنيا، ولم يقوموا بها، وهي من فروع الشريعة.

وكذلك قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ}(5)، فرتب تعذيبهم بويل لأنهم لا يؤتون الزكاة.

وغير ذلك من الأدلة في هذا المجال.

ج- ذكر بعض العلماء أن الكافر مخاطب بالإيمان، وهو شرط العبادة، ومن خوطب بالشرط كالطهارة كان مخاطبًا بالصلاة(6).

القول الثاني: وهو أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، وهو المشهور عن الحنفية البخاريين، وهو قول للشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، وغيرهم، واستدلوا بعدة أدلة منها:

أ- ما سبق في أول المبحث من استدلالهم بالحديث.

ب- قالوا: «لو وجبت الصلاة على الكافر-مثلاً- لوجبت إما في حال كفره أو بعده، والأول باطل لامتناع الصلاة من الكافر حال كفره، والثاني-أيضًا- باطل للاتفاق على أن الكافر إذا أسلم لا يؤمر بقضاء الصلوات الفائتة في أيام الكفر«(7).

القول الثالث: أنهم مكلفون بالنواهي دون الأوامر، وهذا القول رواية ثالثة عن الإمام أحمد، وهو وجه في مذهب الشافعي. واستدل هؤلاء بأن الكف عن المنهي عنه ممكن من الكافر حال كفره، بخلاف فعل للطاعات؛ لأن الكف عن المنهيات لا يتوقف على نية، فصح من الكافر بخلاف فعل للعبادات، فإنه لا بد فيه من النية، فتوقف فعلها على الإيمان، فلا تصح من الكافر حال كفره(8).

والذي يظهر من خلال عرض هذه الأقوال أن أقواها القول الأول؛ لقوة أدلته.

يقول النووي :: «ثم اعلم أن المختار أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، المأمور به والمنهي عنه. هذا قول المحققين والأكثرين«(9).

وقال -أيضًا- في المجموع: «اتفق أصحابنا على أن الكافر الأصلي، لا تجب عليه الصلاة والصوم والحج وغيرها من فروع الإسلام، والصحيح في كتب الأصول: أنه مخاطب بالفروع، كما هو مخاطب بأصل الإيمان»، ثم قال: «وليس هو مخالفًا لما تقدم؛ لأن المراد هناك غير المراد هنا، فالمراد هناك: أنهم لا يطالبون بها في الدنيا مع كفرهم، وإذا أسلم أحدهم لم يلزمه قضاء الماضي، ولم يتعرضوا لعقاب الآخرة، ومرادهم في كتب الأصول: أنهم يعذبون عليها في الآخرة، زيادة على عذاب الكفر، فيتعذبون عليها وعلى الكفر جميعًا، لا على الكفر وحده، ولم يتعرضوا للمطالبة في الدنيا، فذكروا في الأصول حكم طرف، وفي الفروع حكم الطرف الآخر«(10)

فائدتان :

الفائدة الأولى:

أن هذه المسألة فرع لمسألة أخرى، وهي: هل حصول الشرط الشرعي شرط في التكليف؟

فمن قال بأنه ليس شرطًا قال بالرأي الأول، ومن قال بأنه شرط قال بالرأي الثاني.

الفائدة الثانية:

للخلاف في مخاطبة الكفار بفروع الشريعة ثمرة، وهي كثرة عقابهم في الآخرة، وليس المطالبة بفعل الفروع في الدنيا، ولا قضاء ما فات، وقد فصلت كتب الأصول، وكتب الفروق ذلك، فليرجع إليه من أراد التوسيع والتفصيل. والله أعلم(11).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [البقرة: 21]

(2) [الزمر: 16]

(3) [الأعراف: 31]

(4) [المدثر: 42]

(5) [فصلت: 6]

(6) ينظر: شرح الكوكب المنير (1/ 502).

(7) ينظر: تخريج الفروع على الأصول (99)

(8) ينظر: نهاية السول (1/ 274)، وإرشاد الفحول (10)

(9) شرح النووي على مسلم (1/198).

(10) المجموع شرح المهذب (3/ 4، 4 (328).

(11) ينظر في هذه المسألة: شرح الكوكب المنير (1/ 500- 504)، وتخريج الفروع على الأصول (98)، ونهاية السول (1/ 369)، والأشباه والنظائر، للسيوطي (253)، والمجموع، للنووي (3/ 503)، والإنصاف (1/390)، والقواعد والفوائد الأصولية، لابن اللحام (19)، والفروق للقرافي (3/ 184)، وإرشاد الفحول، للشوكاني (10)، وعمدة القاري (8/236).



بحث عن بحث