المبحث الثالث: التحليل اللفظي للحديث

قوله: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن..»

أ- ظاهر هذه العبارة أن الحديث من مسند ابن عباس، وهو كذلك في جميع الروايات السابقة، ما عدا رواية ابن أبي شيبة، فقد جعله من مسند معاذ بن جبل رضي الله عنه وقد سبق معنا أنه رواه عن وكيع، قال: حدثنا زكريا بن إسحاق المكي، قال: حدثني يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس، عن معاذ، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم... الحديث.

ورواه عنه الإمام مسلم بهذه الصيغة فجعله من مسند معاذ.

وبهذا تظهر مخالفة ابن أبي شيبة لجميع الرواة الذين رووه عن وكيع.

قال الحافظ ابن حجر :: «قوله: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن» كذا في جميع الطرق، إلا ما أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، وإسحاق بن إبراهيم، ثلاثتهم عن وكيع، فقال فيه: (عن ابن عباس، عن معاذ بن جبل، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فعلى هذا فهو من مسند معاذ. وظاهر سياق مسلم أن اللفظ مدرج، لكن لم أرَ ذلك في غير رواية أبي بكر بن أبي شيبة، وسائر الروايات أنه من مسند ابن عباس، فقد أخرجه الترمذي، عن أبي كريب، عن وكيع، فقال فيه: (عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا)، وكذا هو في مسند إسحاق بن إبراهيم، وهو ابن راهوية، قال: (حدثنا وكيع به)، وكذا رواه عن وكيع أحمد في مسنده، أخرجه أبو داود، عن أحمد، ويأتي في المظالم، عن يحيى بن موسى، عن وكيع كذلك، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه، عن محمد بن عبد الله المخرمي، وجعفر بن محمد الثعلبي، والإسماعيلي من طريق أبي خيثمة، وموسى بن السري، والدارقطني من طريق يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وإسحاق بن إبراهيم البغوي، كلهم عن وكيع كذلك، فإن ثبتت رواية أبي بكر فهو من مرسل ابن عباس، لكن ليس حضور ابن عباس لذلك ببعيد؛ لأنه كان في أواخر حياة النبي غ، وهو إذ ذاك مع أبو يه بالمدينة«(1).

من خلال كلام ابن حجر: يتبين ما يلي:

1-أنه يميل إلى ترجيح أن الحديث من مسند ابن عباس، وليس من مسند معاذ رضي الله عنه، وهذا هو الذي يظهر لي حيث إن ابن أبي شيبة : خالف الثقات بروايته عن وكيع الذي جعله من مسند معاذ.

2-على هذا الترجيح يقرر ابن حجر : أنه لا يبعد سماع ابن عباس رضي الله عنه للحديث، حيث كان في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إذ ذاك مع أبويه في المدينة، وأقول: لا يبعد -أيضًا- لأن ابن عباس إذ ذاك يقرب عمره من الثالثة عشرة، إذ أنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وبعث معاذ كان-على الصحيح- في السنة العاشرة للهجرة-كما سيأتي- ومن المقرر في علم المصطلح أنه يصح تحمل الصغير وسماعة إذا ميَّز وفهم الخطاب(2).

وعلى فرض ثبوت رواية ابن أبي شيبة، يقرر ابن حجر أنه يكون مرسل صحابي، حيث رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فسقط معاذ بن جبل رضي الله عنه من الإسناد، وهذا لا يضر، كما قرر ذلك الإمام النووي : قال: (ويكون مرسلاً، ولكن هنا يكون مرسلاً صحابيًّا له حكم المتصل على المشهور من مذاهب العلماء)(3).

ب ـــ ترجمة ابن عباس رضي الله عنهما ترجمه مختصرة:

هو أبو العباس، حبر الأمة، وإمام أهل التفسير، والصحابي الجليل، عبد الله، ابن عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، القرشي الهاشمي المكي.

- ولد قبل الهجرة بثلاث سنين.

- أمه هي أم الفضل، لبابة بنت الحارث بن حزن بن بجير الهلالية، من هلال بن عامر.

- كان رضي الله عنه وسيمًا جميلاً، مديد القامة، مهيبًا كامل العقل، ذكي النفس.

- انتقل رضي الله عنه مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح.

- دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى عن نفسه رضي الله عنه أنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المخرج وخرج، فإذا تور مغطى، فقال: «من صنع هذا»؟ فقلت: أنا. فقال: «اللهم علِّمه تأويل القرآن«(4).

وفي رواية عند أحمد وغيره أنه قال: «اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين«(5).

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة.

كان شديد الحرص على طلب العلم، وسؤال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى ابن سعد وغيره، عنه أنه قال: «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلُمَّ نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا لك يا ابن عباس أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟! فترك ذلك، وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسف الريح عليَّ التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك فأسألك، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس عليَّ، فقال: هذا الفتى أعقل مني«(6).

- قال مجاهد: «كان ابن عباس يسمى البحر؛ لكثرة علمه«.

- وقال مسروق: «كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، فإذا نطق قلت: أفصح الناس، فإذا تحدث قلت: أعلم الناس«.

- توفي ابن عباس رضي الله عنه سنة ثمان وستين، وقيل سبع وستين، وعاش إحدى وسبعين سنة.

- مسنده ألف وستمائة وستون حديثًا، وله من ذلك في الصحيحين خمسة وسبعون ومائة، وتفرد البخاري له بمائة وعشرين حديثًا، وتفرد مسلم بتسعة أحاديث، رضي الله عنه وأرضاه(7)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ينظر: فتح الباري (3/ 358).

(2) ينظر: علوم الحديث، لابن الصلاح (116)، وتدريب الراوي (2/ 5- 7).

(3) ينظر: شرح النووي على مسلم (196/1).

(4) أخرجه البخاري في صحيحه، في مواضع، منها في كتاب العلم، باب قول النبي غ: «اللهم علمه الكتاب»(1/ 155).

(5) ينظر مسند الإمام أحمد (1/ 155).

(6) الطبقات لابن سعد (2/367).

(7) ينظر في ترجمته: طبقات ابن سعد (5/362)، وتاريخ بغداد (1/173)، والاستيعاب (2/350)، وأسد الغابة (3/290)، وسير أعلام النبلاء (3/331)، والإصابة (2/230)، وتهذيب التهذيب (5/ 276).



بحث عن بحث