المقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نقلوا السنة عنه، وحفظوها وأدوها كما سمعوها، وعلى التابعين الذين دونوها وسطروها، ومن تبعهم واقتفى أثرهم على سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلمإلى يوم الدين. أما بعد:

فلا شك أن المصدر الثاني للتشريع الإسلامي هو السنة المطهرة بعد القرآن الكريم؛ فهي توضح مبهمه، وتفصل مجمله، وتحل مشكله، وتفرع على أصوله، وهي التطبيق العملي للقرآن الكريم.

ومن هذا المنطلق؛ فقد حظيت السنة المطهرة بعناية فائقة من علماء الإسلام من عهد الصحابة الكرام إلى وقتنا الحاضر، وتنوعت هذه العناية من حفظها ثم تدوينها إلى الدفاع عنها وتوضيحها.

ومن أهم مظاهر هذه العناية بالسنة النبوية: تنوع التدوين، فتارة بجمع الأحاديث ذات الوحدة الموضوعية، وتارة بجمع أحاديث صحابي واحد أو مجموعة صحابة، وتارة بإفراد الصحيح، وأخرى بجمعه مع غيره، وتارة بشرح الأحاديث شرحاً موجزاً أو مفصلاً أو غير ذلك.

ومن أنواع التدوين: شرح الحديث الواحد، والتفصيل فيما يحتويه من مسائل وأحكام، ويسمى في عرف أهل الاصطلاح «بالأجزاء الحديثية»، والشرح شكل من أشكالها.

ولقد برز في هذا الجانب علماء أجلاء عمدوا إلى بعض الأحاديث النبوية، وأفردوها بالشرح والتأليف، فيبنوا من أخرجها من الأئمة، وما تحتويه من معاني ومسائل وأحكام وفوائد، وما يعضده من نصوص أخرى.

وإن من أبرز الذين اعتنوا بهذا الجانب من التأليف الإمام ابن رجب الحنبلي : فله باع طويل فيه.

ولهذا النوع من التأليف فوائد جمة لا تتيسر في غيرها، مثل جمع طرق الحديث الواحد، وجمع من أخرجه من الأئمة، وبالتالي يتضح ما بين رواياتهم من اختلاف قد يترتب عليها خلاف في المعنى، وكذلك بيان معاني هذا الحديث بشيء من التفصيل، وتوضيح مسائله وفوائده وأحكامه وحكمه وأسراره.

ولقد لمست هذه الفوائد العظيمة في هذا النوع أثناء تدريسي لطلبة السنة المنهجية في الدراسات العليا لعام 1409هـ؛ فطبيعة تلك الدراسات تحتاج إلى شيء من التوسع والتفصيل.

وفي أثناء تدريسي لهم مر معنا حديث ابن عباس رضي الله عنهما في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبلا حينما بعثه إلى اليمن، وإذ بهذا الحديث يحتوي على مسائل عظيمة في فنون كثيرة، فيحتوي على مسائل في العقيدة، وأصول الفقه، والمصطلح، والفقه، والدعوة.. فرأيت أن هذا الحديث يحتاج إلى تأليف في رسالة مستقلة، إن لم يكن أُلّف فيه.

وعند سؤالي لبعض المشايخ الأجلاء عن معرفته بما أُلّف فيه، لم يتبين شيء من هذا، فتوكلت على الله ﻷ سائلاً إياه الإعانة والتوفيق والسداد لخوض غمار هذا الحديث، وبيان طرقه، واستخراج فوائده، وتفصيل مسائله على نحو يجمع بين الاختصار والإطالة، متوخيًا توضيح العبارة قدر المستطاع، مُرجعًا المعلومات والأقوال إلى مصادرها الأصيلة، عازياً النقول إلى أصحابها، مُحيلاً كل مسألة إلى بعض المراجع المفصلة لها لمن أراد الاستزادة والتفصيل.

والله أسأل أن يثيبني على ما فيه من صواب، وأن يغفر لي ما فيه من زلل وتقصير؛ إنه سميع مجيب.

ولقد قسمت هذا البحث إلى سبعة مباحث وخاتمة، مصدرًا إياه بمقدمة، وبنص الحديث المراد على إحدى روايات الإمام البخاري، لكي أثبت الفروق بينها وبين الروايات الأخرى.

المبحث الأول: وخصصته لتخريج الحديث، وعَزْوِه إلى مصادره الأصلية، موضحًا كل رواية، واختلافها مع الروايات الأخرى، ولقد تيسير لي الرجوع إلى خمسة عشر مصدرًا من مصادر السنة النبوية.

المبحث الثاني: لخصت فيه الطرق السابقة، موضحًا لها بشجرة تبين مخرج الحديث.

المبحث الثالث: جعلته خاصًّا لتوضيح ألفاظ الحديث، وتبيين ما يحتاج إلى توضيح منها، والفرق بين الروايات، وهل يتغير المعنى بها أو لا؟ وقد فصَّلت ما يحتاج إلى تفصيل.

المبحث الرابع: جمعت فيه المسائل العقدية المستنبطة من الحديث، وهي ثلاث مسائل، وبينت مخرجها من الحديث، وفصَّلت ما يحتاج منها إلى تفصيل.

المبحث الخامس: جمعت فيه مسائل علم أصول الفقه، وعلم المصطلح؟ لتداخل العلمين في بعضهما؛ فكلاهما يُعنى بالتقعيد والتأصيل، واستخرجت من الحديث ثلاث مسائل- أيضًا- بيَّنتُها بما يناسب المقام.

المبحث السادس: خصصته للأحكام الفقهية المستنبطة من الحديث، بحثتها في ثِنْتَي عشرة مسألة فصلتها بما يقتضيه المقام.

المبحث السابع: وهو ختام المباحث، وكان خاصًّا بمسائل في الدعوة والتوجيه، وكانت ثلاث مسائل.

وبعد: فهذا جهد المُقِلّ. أسأل الله-تعالى- أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعله حجة لنا يوم نلقاه، كما أسأله أن يثيب على الصواب، وأن يعفو عن الزلل والخطأ، فأعمال الإنسان معرضة للخطأ والتقصير، وما كان فيه من هذا الأمر فمن نفسي والشيطان، وما كان فيه من صواب فمن الله وحده لا شريك له، كما أسأله أن يغفر لي ولوالدي ولمشايخي، ولجميع المسلمين؛ إنه سميع قريب مجيب.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

                         

وكتبه

فالح بن محمد بن فالح الصغير

الـمشرف العام على موقع شبكة السنة وعلومها

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.



بحث عن بحث