الوقفة العاشرة: الابتلاء من سنن الدعوة

يتبين ذلك من قول ورقة بن نوفل: «لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي«.

إن الإنسان يبتلى في هذه الدنيا بأنواع من الابتلاءات: بالخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، فعن أَبي الْعَلاءِ بْن الشِّخِّيرِ قال: «حَدَّثَنِي أَحَدُ بَنِي سُلَيْمٍ -وَلا أَحْسَبُهُ إِلاّ قَدْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم- أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِمَا أَعْطَاهُ، فَمَنْ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِيهِ وَوَسَّعَهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ يُبَارِكْ لَهُ»(1). فالابتلاء من سنن الله ﻷ لجميع العباد، ولكن من يقوم بهمّ الدعوة فهو أشد ابتلاء من غيره، ولذا أشدهم بلاء الأنبياء، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم العلماء ثم الأمثل فالأمثل»(2).

والعلماء أشد الناس بلاء بعد الأنبياء؛ لأنهم ورثتهم في العلم والعمل والتعليم والدعوة، وإلا كم من عالم يشهد علمه عليه يوم القيامة.

ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين؛ فبلاؤه كان أشد من غيره من أنبياء، فطيلة مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة -بعد تشرفه بالنبوة- وهو يبتلى بالأذى والمحن؛ عذب من قبل قومه، ووضع عليه سلا الجزور، وقوطع وحوصر هو ومن معه في شعب أبي طالب، وابتلي بالاستهزاء والسخرية، وبوصفه بأنه مجنون وساحر وكاهن وشاعر، خرج إلى الطائف فآذاه أهلها أشد الإيذاء عندما عرض الإسلام على قادة هذا البلد، ثم خرج من مكة مهاجرًا إلى المدينة، ومكة كانت مولده ومنشأه، وفيها أولاده وأقاربه، وفي يوم أحد كسرت رباعيته وشُجّ رأسه فجعل الدم يسيل على وجهه، وفي ابن ماجه وأحمد عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ قَدْ خُضِّبَ بِالدِّمَاءِ قَدْ ضَرَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: فَعَلَ بِي هَؤُلاءِ وَفَعَلُوا. قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: نَعَمْ أَرِنِي. فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي، قَالَ: ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ، فَدَعَاهَا فَجَاءَتْ تَمْشِي حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: قُلْ لَهَا فَلْتَرْجِعْ، فَقَالَ لَهَا فَرَجَعَتْ حَتَّى عَادَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: حَسْبِي»(3). إذًا لا بد من الابتلاء والامتحان لكل داع إلى الله، ولا بد من تحمل الأذى والصبر عليه، ولا يخرج الإنسان من مدرسة الدعوة إلا ويمر بهذا الابتلاء، وكلٌ يبتلى بحسب دينه وإيمانه.

وحكى رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيًّا وعن موقفه المثالي حين أوذي من قبل قومه، فعن عبد الله بن مسعود قال: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِن الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ»(4).

وعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»(5).

وأحيانًا يبتلي الله سبحانه العباد برغد العيش، أو المنصب والجاه، أو نوع من السلطة، فيميل العبد إلى هذه الأمور الزائلة ميلا عظيما، وينسى الله سبحانه وتعالى، وينسى الطاعة والدعوة، والله سبحانه ابتلى بهذه الأمور فرعون وهامان وقارون وكثيرا من الناس فأهلكتهم، وابتلى بها داود وسليمان وغيرهما فأدوا حقوق الرب وحقوق العباد، واستخدموا هذا الجاه والمنصب والأموال الطائلة لخدمة هذا الدين، ففازوا في الدنيا والآخرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رواه أحمد في أول مسند البصريين (19768).

(2) رواه الحاكم في المستدرك (5465) (3/343).

(3) رواه ابن ماجه في الفتن، باب الصبر على البلاء (4028) وأحمد في باقي مسند المكثرين (11702).

(4) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3477) ومسلم في الجهاد والسير (1792).

(5)  رواه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء (2398) وابن ماجه في الفتن، باب الصبر على البلاء (4023)



بحث عن بحث