الوقفة التاسعة: الحرص على أعمال الخير

وذلك يتمثل في قَوْل ورقة بن نوفل: «يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا» يَعْنِي: شَابًّا قَوِيًّا حَتَّى أُبَالِغ فِي نُصْرَتك. وفي قوله: «وَإِنْ يُدْرِكنِي يَوْمك» أَيْ: وَقْت خُرُوجك. «أنْصُرك نَصْرًا مُؤَزَّرًا».

وهكذا ينبغي للمسلم أن يكون حريصًا على أعمال الخير لا يفتر عنها أبدًا بل يسارع إليها، وفوق ذلك يتمنى أن يكون له موقف في نصرة الحق وأهله، حتى إذا وجد الفرصة اغتنمها وسابق إليها، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا حَسَدَ إِلاّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ فَقَالَ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلانٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلانٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ»(1).

وهذا الحرص على أعمال الخير يكسب الطمأنينة في هذه الحياة الدنيا، والفوز بالجنة، والنجاة في الآخرة. والمسلم عليه أن يحرص على مصلحته الأخروية أكثر من مصلحته الدنيوية؛ لأن الحرص على ما ينفع الإنسان في الآخرة هو المقصود الأعظم، والدنيا ما هي إلا مجال لتحقيق عبودية الله تعالى في الأرض، فالهدف والغاية الجليلة هي ما ينفع الإنسان في الآخرة، فالدنيا معبر للآخرة، وهي كما قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ .سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(2). فالبشرى لمن جعل هذه الحياة الدنيا معبرًا، وطلبَ مغفرة، ورضوانٍ من الله وجنة عرضها السماوات والأرض؛ لأن الدنيا كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عَبْد اللَّهِ بن مسعود قَالَ: نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً؟ فَقَالَ: مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا«(3).

فالرابح من يسعى سعيًا حثيثًا إلى ما يحقق مصلحته الأخروية، والراحة في الحياة الأبدية، {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ}(4)

، ومن سعى للآخرة سهّل الله له أمور الدنيا، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ}(5)، وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ كَانَتْ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِن الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ«(6).

كما يؤخذ من قول ورقة بن نوفل: أن الإنسان مطالب بما يستطيع، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولكن الإنسان لا يترك ما هو مستطاع لديه، ومثال ذلك: الذي يقدر القيام فعليه الصلاة قائما، والذي لا يقدر القيام ويقدر على الجلوس يصلي جالسًا، والذي لا يقدر على الجلوس يصلي على جنب، والذي يقدر على الجلوس ولا يقدر على القيام ليس له أن يصلي على جنب، بل عليه أن يصلي جالسا.. وهكذا بقية أعمال الخير كل يعمل بما يستطيع، فالذي يستطيع نصرة الدين بالمال فعليه النصرة بالمال، والذي يستطيع نصرته بقوة جسمه عليه أن ينصره بها، والذي يقدر أن ينصره بلسانه وبقلمه عليه أن يفعل ذلك، والذي يستطيع نصرته بالقول والمال لا يجوز له أن يكتفي بالقول فقط، ولا يجوز الاكتفاء بالتمني إلا لمن لا يقدر على شيء من ذلك، صح عن الحسن أنه قال: «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب، وصدقه العمل«.

ومن هنا فليعلم الدعاة أن من أهم الزاد لهذه الدعوة: التنافس في أعمال الخير المتعددة، والتسابق فيها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رواه البخاري في فضائل القرآن، باب اغتباط صاحب القرآن (5026).

(2) [الحديد:2 20 – 21]

(3) رواه الترمذي في الزهد، باب حديث ما الدنيا إلا كراكب استظل (2377) وابن ماجه في الزهد، باب مثل الدنيا (4109).

(4) [الأعلى:14 – 15]

(5) [الليل:5-7]

(6) رواه الترمذي في صفة القيامة، باب أحاديث: ابتلينا بالضراء، ومن كانت الآخرة همه، وابن آدم تفرغ لعبادتي (2465) وابن ماجه في الزهد، باب الهم بالدنيا (4105).



بحث عن بحث