الوقفة الثامنة: استشارة أولي النهى في الأمور المعقدة

إن الداعية كغيره من الناس قد يعتريه مشاكل في حياته الدعوية، أو حياته الخاصة، فعليه حينئذ أن يستشير أولي العقول المستقيمة، وهذا ظاهر في رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى زوجه بعد أن نزل عليه الوحي، وخشي على نفسه من هول ما رآه، فقال: زملوني زملوني فزملوه، ولما ذهب عنه الروع وتحدث عما رآه فثبّتت قلبه وخفّفت عنه خوفه، وقالت: كلا. والله لا يحزنك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، ثم ذهبت به خديجة رضي الله عنها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان عنده من علم الكتاب وهو الإنجيل، فقال: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى. وهكذا تمت الاستشارة من أحب الناس إليه وهي خديجة رضي الله عنها، ثم من أعقل الناس حينئذ وهو ورقة بن نوفل، فهذا السياق يعطينا درسًا مهمًّا يتمثل في أمرين: الأمر الأول: أن الإنسان تمر عليه المشكلات، وتمر عليه قضايا، وتعتريه هموم وغموم أحيانًا؛ فلا بد إذًا لمواجهة تلك المشكلات وحلها أن يختار من يستشير لعرض المشكلات عليه لكي يرشده إلى حل؛ ولكي يبعد عنه غمه وهمه وحزنه.

فإذا اعترض الإنسان مشكلة في حياته، وخصوصًا فيما يعترض سيره إلى الله عز وجل، فلا بد أن يعرض نفسه على من يثق به، وعلى من عنده شيء من العلم والخبرة في هذا الأمر؛ لكي يدله ويرشده إلى الصواب.

والأمر الثاني: أن الإنسان إذا استشير في أمر الخير؛ فعليه أن يبين النصح، وأن يمحض الحقيقة، وأن يدل على الخير فيما استشير فيه، بهذا يكون المجتمع مجتمعًا متناصحًا يتعاون على البر والتقوى، ويصل إلى الخير.

وقد أمر الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاور الناس فقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(1)، قال ابن سعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره:

ومنها: أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى لله.

ومنها: أن فيها تسميحًا لخواطرهم، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث؛ فإن من له الأمر على الناس إذا جمع أهل الرأي والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث اطمأنت نفوسهم وأحبوه، وعلموا أنه ليس بمستبد عليهم، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم، بخلاف من ليس كذلك؛ فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة، ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة.

ومنها: أن في الاستشارة تنور الأفكار، بسبب إعمالها فيما وضعت له، فصار في ذلك زيادة للعقول.

ومنها: ما تنتجه الاستشارة من الرأي المصيب؛ فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب فليس بملوم، فإذا كان الله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم - وهو أكمل الناس عقلًا وأغرزهم علمًا وأفضلهم رأيًا-: فكيف بغيره؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [آل عمران: 159]



بحث عن بحث