الوقفة الثالثة: فجاءه الحق

وفي رواية مسلم: «فَجِئَهُ الْحَقّ»، أَيْ: جَاءَهُ الْوَحْي بَغْتَة؛ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ مُتَوَقِّعًا لِلْوَحْيِ. كما قاله النووي.

وفي ذلك رد مبرم على افتراء المستشرقين أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد ادعى النبوة بعد تخطيط دقيق، وإعداد سابق، أو تعلم من أهل الكتاب؛ لأنه لو كان كذلك لم يقل: حتى فجئه الحق، لأن الفجأة يناقض الإعداد السابق.

ومن المفترين من أثار شبهة أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يتطلع للنبوة، ولذا كان يخلو في غار حراء عسى ينزل عليه الوحي، وهي شبهة واهية؛ لرواية ابن إسحاق: أن الله سبحانه هو الذي حبّب إليه الخلوة فلم يكن شيء أحب إليه من الخلوة.

يقول الدكتور مصطفى السباعي: «إن محمدًا عليه الصلاة والسلام لم يكن يستشرف النبوة ولا يحلم بها، وإنما كان يلهمه الله الخلوة للعبادة تطهيرًا، وإعدادًا روحيًّا لتحمل أعباء الرسالة، ولو كان عليه الصلاة والسلام يستشرف للنبوة لما فزع من نزول الوحي عليه، ولم ينزل إلى خديجة يستفسرها عن سر تلك الظاهرة التي رآها في غار حراء، ولم يتأكد من أنه رسول إلا بعد رؤيته جبريل يقول له: يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل، وإلا بعد أن أكد له ولخديجة ورقة بن نوفل أن ما رآه في الغار هو الوحي الذي كان ينزل على موسى عليه الصلاة والسلام«(1).

وقد ردَّ القرآن على مزاعم المستشرقين مرات عديدة، منها قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}(2). وقال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(3).

في هاتين الآيتين دليل واضح على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متوقعًا لنزول الوحي عليه، ولم يكن يخطط لادعاء النبوة بإعدادات مسبقة، بل فجئه الحق، وجاءه الوحي بغتة؛ ففزع وخاف على نفسه. وفي ذلك رد أيضًا على افتراء المستشرقين: أن النبي صلى الله عليه وسلم تلقى علومًا من أهل الكتاب، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا . قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا}(4)  يقول ابن كثير :: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، يعنون كتب الأوائل أي استنسخها {اكْتَتَبَهَا}، أي تقرأ عليه {فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ}، أي في أول النهار وآخره، وهذا الكلام لسخافته وكذبه وبهته منهم يعلم كل أحد بطلانه، فإنه قد علم بالتواتر وبالضرورة أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعاني شيئا من الكتابة لا في أول عمره ولا في آخره، وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحوًا من أربعين سنة، وهم يعرفون مدخله ومخرجه، وصدقه ونزاهته، وبره وأمانته، وبعده عن الكذب والفجور وسائر الأخلاق الرذيلة، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره وإلى أن بعث الأمين; لما يعلمون من صدقه وبره، فلما أكرمه الله بما أكرمه به نصبوا له العداوة، ورموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها، وحاروا فيما يقذفونه به؛ فتارة من إفكهم يقولون: ساحر، وتارة يقولون: شاعر، وتارة يقولون: مجنون، وتارة يقولون: كذاب، قال الله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}(5).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) السيرة النبوية – دروس وعبر ص55،56.

(2) [العنكبوت:48]

(3) [الشورى:52]

(4) [الفرقان: 5-6]

(5) [الفرقان:9]



بحث عن بحث