الوقفة الثانية: خلوة النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء

والعلماء قد اختلفوا في أيهما أفضل: العزلة أو الاختلاط، وكل فريق له دليل. ومن الصوفية الجهلاء من يستدل بخلوته صلى الله عليه وسلم في غار حراء على مكوثهم في الغيران والجبال والصحاري أيامًا معدودة، ويدعون أنه بذلك تتنور قلوبهم، وهذه دعاوى لا دليل لها من الشرع، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : في الرد على ذلك: «إذ الْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلامُ فِي أَجْنَاسِ عِبَادَاتٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ حَدَثَتْ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ، كَالْخَلَوَاتِ؛ فَإِنَّهَا تَشْتَبِهُ بِالاعْتِكَافِ الشَّرْعِيِّ. وَالاعْتِكَافُ الشَّرْعِيُّ فِي الْمَسَاجِدِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مِن الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَمَّا الْخَلَوَاتُ فَبَعْضُهُمْ يَحْتَجُّ فِيهَا بِتَحَنُّثِهِ بِغَارِ حِرَاءٍ قَبْلَ الْوَحْيِ. وَهَذَا خَطَأٌ; فَإِنَّ مَا فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ النُّبُوَّةِ إنْ كَانَ قَدْ شَرَعَهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِهِ فِيهِ وَإِلاّ فَلا. وَهُوَ مِنْ حِينِ نَبَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَصْعَدْ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى غَارِ حِرَاءٍ وَلا خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ؛ وَقَدْ أَقَامَ صلوات الله عليه بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَدَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَعَامَ الْفَتْحِ وأَقَامَ بِهَا قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَأَتَاهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ; وَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَ لَيَالٍ، وَغَارُ حِرَاءٍ قَرِيبٌ مِنْهُ وَلَمْ يَقْصِدْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا كَانُوا يَأْتُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُقَالُ: إنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ هُوَ سَنَّ لَهُمْ إتْيَانَهُ لأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ هَذِهِ الْعِبَادَاتُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ صلوات الله عليه؛ كَالصَّلاةِ وَالاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ، فَهَذِهِ تُغْنِي عَنْ إتْيَانِ حِرَاءٍ، بِخِلافِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ نُزُولِ الْوَحْيِ«.

ثم قال: «و[طَائِفَةٌ] يَجْعَلُونَ الْخَلْوَةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيُعَظِّمُونَ أَمْرَ الأربعينية، وَيَحْتَجُّونَ فِيهَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاعَدَ مُوسَى عليه السلام ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتَمَّهَا بِعَشْرِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى عليه السلام صَامَهَا، وَصَامَ الْمَسِيحُ أَيْضًا أَرْبَعِينَ لِلَّهِ تَعَالَى وَخُوطِبَ بَعْدَهَا، فَيَقُولُونَ: يَحْصُلُ بَعْدَهَا الْخِطَابُ وَالتَّنَزُّلُ -كَمَا يَقُولُونَ فِي غَارِ حِرَاءٍ- حَصَلَ بَعْدَهُ نُزُولُ الْوَحْيِ. وَهَذَا أَيْضًا غَلَطٌ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، بَلْ شُرِعَتْ لِمُوسَى عليه السلام كَمَا شُرِعَ لَهُ السَّبْتُ وَالْمُسْلِمُونَ لا يَسْبِتُونَ، وَكَمَا حُرِّمَ فِي شَرْعِهِ أَشْيَاءُ لَمْ تُحَرَّمْ فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَهَذَا تَمَسُّكٌ بِشَرْعِ مَنْسُوخٍ، وَذَاكَ تَمَسُّكٌ بِمَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ. وَقَدْ جُرِّبَ أَنَّ مَنْ سَلَكَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةَ أَتَتْهُ الشَّيَاطِينُ، وَحَصَلَ لَهُ تَنَزُّلٌ شَيْطَانِيٌّ، وَخِطَابٌ شَيْطَانِيٌّ، وَبَعْضُهُمْ يَطِيرُ بِهِ شَيْطَانُهُ، وَأَعْرِفُ مِنْ هَؤُلاءِ عَدَدًا طَلَبُوا أَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ مِنْ جِنْسِ مَا حَصَلَ لِلأَنْبِيَاءِ مِن التَّنَزُّلِ؛ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ الشَّيَاطِينُ; لأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي أُمِرُوا بِهَا. قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ . إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۖ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}(1). وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لا يَحُدُّ لِلْخَلْوَةِ مَكَانًا وَلا زَمَانًا بَلْ يَأْمُرُ الإِنْسَانَ أَنْ يَخْلُوَ فِي الْجُمْلَةِ«.

فخلاصة القول: أن كل عمل يعمله الإنسان لا بد أن يكون موافقًا للشرع المتين، ومبنيًّا على الإخلاص، فالخلوة إن كانت بين حين وآخر لمحاسبة النفس، أو التفكر في خلق الله، أو للاعتكاف الشرعي، وقد أدى حقوق الأهل والأولاد؛ فلا حرج بل هو مطلوب، أما إن كانت الخلوة على حساب حقوق الأهل والأولاد، في المغارات والجبال مع العبادات غير الشرعية مثل أن يقوم أيامًا، أو يصوم الدهر، على غرر أعمال نساك الهنود والنصارى فهو ابتداع في الدين، بل يوصل العبد إلى الكفر والشرك، والله المستعان!

أما لو سئل: هل الخلوة في البيت وقلة الاختلاط مع الناس أفضل أو العكس؟

فالجواب: أن العزلة والاختلاط لهما أحوال، ويختلف الحكم باختلاف الأحوال؛ إن كانت العزلة عن الأشرار والفساق أو العابثين فهذه عزلة مفيدة، وخاصة إن اشتغل المسلم في العلم أو التلاوة وسائر العبادات المشروعة، أما أن يعتزل عن جماعة المسلمين ولا يعنيه مصالحهم، ولا يهمه لو أصابهم شيء؛ فهذا عمل لا يليق بمسلم، وخاصة أن أمر الدعوة لا يتأتى إلا بالاختلاط بالناس، والصبر على أذاهم، والتعاون على البر والتقوى الذي أمر الله تعالى به لا يأتي بالعزلة.

إذًا: الخلوة لا تعني البعد الكلي عن الناس، بل ينبغي مخالطة الناس، ودعوتهم إلى الخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتصحيح الأخطاء، وإرشاد الضال.

ومما يحسن بيانه -مما يقال هنا في أمر الخلطة والاعتزال- أن يجعل المسلم والداعية لنفسه خلوات تفكر في أمر منهجه وأعماله للتصحيح والتصويب والمراجعة والتأمل؛ لأن الانشغال المتوالي والكثير قد يعين الشيطان على نفسه من حيث لا يشعر؛ فيضعف علمه، وتقل عبادته، وصلته بربه، وخير منهج في ذلك منهج القدوة عليه الصلاة والسلام، فله وقفات وتأملات وأحوال خاصة، ألا ترى – أخي الداعية– إلى فرضية قيام الليل عليه من الله تعالى؟ وكذا حرصه عليه الصلاة والسلام على الاعتكاف في شهر رمضان، وهو الانقطاع للعبادة والقراءة والصلاة والاستغفار، فليقتد الدعاة بإمام الدعاة عليه الصلاة والسلام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1) [الجاثية:18- 19]



بحث عن بحث