وقفة على أحوال الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

جزيرة العرب:

ولد الرسول صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب في مجتمع عربي له سماته وخصائصه، وفي ذلك الوقت كان يتصدر الناسَ دولتان عظيمتان تتقاسمان السيادة على العالم، وهما: دولة فارس، ودولة الروم، ولكنهما كانتا تعانيان الانحلال والاضطراب في جميع شئون الحياة، وتسودهما صراعات دينية، وصراعات عقائدية وفلسفية، وصراعات اجتماعية.

أما جزيرة العرب فقد كانت أحسن حالًا، كانت هادئة بعيدة منعزلة عن مظاهر هذه الاضطرابات، وكانت طبائع العرب أشبه ما تكون بمواد الخام، لكنهم كانوا يعيشون في ظلام دامس، وجاهلية مبسطة في جميع مظاهر الحياة؛ فنجد لديهم ضلال من ضلال الجاهلية في جميع الأحوال؛ سواء الأحوال الدينية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والأخلاقية.

وأكثر العرب من ولد إسماعيل عليه السلام، لذا كانوا يدينون بدين آبائهم إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام، غير أنه قد دخل عليه التحريف فكانوا يشركون بالله في العبادة، ويعبدون الأصنام، وأول من غيّر دين إبراهيم عليه السلام هو عمرو بن لحي، وفي حديث صلاة الكسوف قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ورأيت فيها -أي: النار- عمرو بن لحي، وهو الذي سيّب السوائب»(1). وَأَوْرَدَهُ اِبْن إِسْحَاق فِي (السِّيرَة الْكُبْرَى) عَنْ مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِح أَتَمَّ مِنْ هَذَا، وَلَفْظه: «سَمِعْت رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُول لأَكْثَم بْن الْجَوْن: رَأَيْت عَمْرو بْن لُحَيّ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النَّار؛ لأَنَّهُ أَوَّل مَنْ غَيَّرَ دِين إِسْمَاعِيل, فَنَصَبَ الأَوْثَان وَسَيَّبَ السَّائِبَة، وَبَحَّرَ الْبَحِيرَة، وَوَصَلَ الْوَصِيلَة، وَحَمَى الْحَامِي». وَذَكَرَ اِبْن إِسْحَاق أَنَّ سَبَب عِبَادَة عَمْرو بْن لُحَيّ الأَصْنَام: أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الشَّام وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيق وَهُمْ يَعْبُدُونَ الأَصْنَام، فَاسْتَوْهَبَهُمْ وَاحِدًا مِنْهَا، وَجَاءَ بِهِ إِلَى مَكَّة، فَنَصَبَهُ إِلَى الْكَعْبَة وَهُوَ هُبَل, وَكَانَ قَبْل ذَلِكَ فِي زَمَن جُرْهُم قَدْ فَجَرَ رَجُل يُقَال لَهُ أَسَاف بِامْرَأَةٍ يُقَال لَهَا نَائِلَة فِي الْكَعْبَة فَمَسَخَهُمَا اللَّه جَلَّ وَعَلا حَجَرَيْنِ, فَأَخَذَهُمَا عَمْرو بْن لُحَيّ فَنَصَبَهُمَا حَوْل الْكَعْبَة, فَصَارَ مَنْ يَطُوف يَتَمَسَّح بِهِمَا, يَبْدَأ بِأَسَاف وَيَخْتِم بِنَائِلَة.

وَذَكَرَ مُحَمَّد بْن حَبِيب عَنْ اِبْن الْكَلْبِيّ: أَنَّ سَبَب ذَلِكَ: أَنَّ عَمْرو بْن لُحَيّ كَانَ لَهُ تَابِع مِنْ الْجِنّ يُقَال لَهُ أَبُو ثُمَامَة فَأَتَاهُ لَيْلَة فَقَالَ: أَجِبْ أَبَا ثُمَامَة, فَقَالَ: لَبَّيْكَ مِنْ تِهَامَة, فَقَالَ: اُدْخُلْ بِلا مَلامَة, فَقَالَ: ايْتِ سَيْف جُدَّة, تَجِدْ آلِهَة مُعَدَّة, فَخُذْهَا وَلا تَهَب, وَادْعُ إِلَى عِبَادَتهَا تُجَبْ. قَالَ: فَتَوَجَّهَ إِلَى جُدَّة فَوَجَدَ الأَصْنَام الَّتِي كَانَتْ تُعْبَد فِي زَمَن نُوح وَإِدْرِيس, وَهِيَ وَدّ وَسُوَاع وَيَغُوث وَيَعُوق وَنَسْر, فَحَمَلَهَا إِلَى مَكَّة وَدَعَا إِلَى عِبَادَتهَا؛ فَانْتَشَرَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ عِبَادَة الأَصْنَام فِي الْعَرَب.

وفي اليمن قد دخلت اليهودية عن طريق بعض الأحبار، والنصرانية عن طريق الحبشة، ولكنها كانت محرّفة ليست كما جاءت من عند الله، والمجوسية قد تسربت إلى بعض من يقطنون بجوار دولة فارس، وكان الدين السائد في الجزيرة الوثنية، وعبادة الأصنام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رواه البخاري في كتاب العمل في الصلاة، باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة (1212).



بحث عن بحث