الوقفة الثانية: القوة والضعف للمؤمن

2-القوة العلمية التي تقود الإنسان إلى الإيمان القوي، والعمل الصحيح، والسلوك المستقيم، جاء في الصحيح: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»(1). وفضل العالِم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإنما فَضَّلُه هذا لما علم، ولما عمل بما علم، ولما صبر وجاهد في تحمل هذا العلم، ولما نشر هذا العلم، فكان نورًا يستضاء به، ومشعلًا يقود الناس إلى الخير، ويدل الأمة على ما يصلح به حالها.

والخيرية لا تأتي إلا بالعلم، والإيمان، والعمل، والدعوة إلى الخير، والنهي عن الشر، قال تعالى:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}(2)، وقال تعالى:{لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}(3)، وفي السنة عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أبيهِ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ عَلَّمَ عِلْمًَا فَلَهُ أَجرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ«(4).

وللقوة العلمية عوامل كثيرة أهمها:

أ - الإخلاص لله عز وجل؛ لأن تعلم العلم من أهم الطاعات، والله لا يوفق إليه من كان خاليًا من الإخلاص.

ب - ملازمة الخشية والمراقبة لله سبحانه وتعالى، فإنما يخشى الله من عباده العلماء، ومن لم يخش الله فليس من أهل العلم.

ج - الرفق وعدم الاستعجال؛ فإن الله رفيق يحب الرفق.

د - الصبر والمصابرة؛ فإن طريق العلم طويل وشاق، فلا بد من الصبر على طلبه.

هـ - الحرص على حفظ القرآن الكريم وأحاديث من السنة النبوية ومتون أخرى.

و - مواصلة طلب العلم والقراءة والبحث والمناقشة(5).

3-القوة الثالثة: القوة الإرادية النفسية التي لا يبقى بها المؤمن ضعيف الهمة، خائر العزيمة، كسلان فاترًا، وإنما ينبعث انبعاث الواثق من نفسه، ومن الحق الذي يمتثله، مواجهًا المثبطات والمغريات والشهوات والشبهات بكل قوة وشجاعة، خلافًا لمن يعبد الله على حرف إن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه.

قال النووي :: «والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقدامًا على العدو في الجهاد، وأسرع خروجًا إليه، وذهابًا في طلبه، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة والصوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبًا لها، ومحافظة عليها، ونحو ذلك«(6).

فالمؤمن القوي صاحب الإرادة القوية أمام الشبهات وأمام الشهوات والمغريات ثابت لا يتزعزع، ثم أمام عمل الطاعات فيقبل عليها، عاملًا لها بكل إرادة وعزيمة فتسهل أمامه، ولا تكون كالجبل الثقيل عليه. وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُك شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَأَسْأَلُك حُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُك قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُك مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا تَعْلَمُ، إنَّك أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ«(7).

وقال تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(8)، قال قتاده: «أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا عزم على أمر أن يمضي عليه، ويستقيم على أمر الله، ويتوكل على الله«(9).

وأهم عوامل القوة النفسية الإيمان بالله وحده، والثقة به، والتوكل عليه، والدعاء إليه، ومواجهة كل أمر بالاستعانة بالله ثم بثقة النفس.

4-والقوة الرابعة: القوة البدنية التي تكون دليلًا وعاملًا قويًّا لعمل الصالحات، فيستغل المؤمن هذه القوة بزيادة ما يقربه إلى محبة مولاه، من صلاة، وصيام، وجهاد، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإعانة الضعيف، ونصر المظلوم، وعليه ألا يكون همه استزادة القوة في البدن دون أدنى نية في استخدام هذه القوة في طاعة الله فيكون كالأنعام بل أضل سبيلًا.

فالمؤمن القوي يكون أسوته الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة مثل أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وحمزة أسد الله وأسد رسوله، ومصعب بن عمير، وخالد بن الوليد، وأبي دجانة وغيرهم، ففي صحيح مسلم: عَنْ أنَسٍ رضي الله عنه: أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَخذ سَيْفًا يَوْم أحد فَقَالَ: «من يَأْخُذ مني هَذَا»؟ فبسطوا أَيْديهم، كل إِنْسَان مِنْهُم يَقُول: أَنا أَنا. قَالَ: «فَمن يَأْخُذهُ بِحقِّهِ»؟ فأحجم الْقَوْم، فَقَالَ سماك بن خرشة أبو دُجَانَة: أَنا آخذه بِحقِّهِ. قَالَ: فَأَخذه ففلق بِهِ هَامَ الْـمُشْركين(10).

هذه أمثلة على القوة التي يحبها الله تعالى ويريدها أن تكون في المؤمن.

بقي أن نعلم: أن المسلم في هذا الوقت وفي كل وقت يواجه مخاطر كثيرة تحتاج إلى القوة الإيمانية والعلمية والإرادية النفسية والبدنية، فيعمل بالعوامل التي تقوي إيمانه، وتزيد في تمكينه العلمي، وتثبت إرادته تجاه العواصف والمخاطر التي تحيط به من هنا أو هناك. فالعمل للحق ونشره، ومقاومة الباطل وأهله، ومدافعة الشيطان وهوى النفس، ومغالبة المغريات والشهوات، والتغلُّب على الشبهات والافتراءات كلها تحتاج إلى قوة ليصل المسلم إلى مبتغاه في الدنيا والآخرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رواه البخاري في العلم، باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، رقم: (71)، ومسلم في الزكاة، باب النهي عن المسألة، رقم: (1037).

(2) [آل عمران:110]

(3) [النساء:114]

(4)  رواه ابن ماجه في المقدمة، باب ثواب معلم الناس، رقم: (240).

(5) ينظر: (المنهجية في طلب العلم) ففيها مزيد فوائد في هذا الموضوع.

(6) شرح النووي على صحيح مسلم (16/ 431).

(7) رواه الترمذي في الدعوات، باب من الدعاء: الله إني أسألك الثبات في الأمر..، رقم: (3407) والنسائي في السهو، نوع آخر من الدعاء، رقم: (1305).

(8) [آل عمران: 159]

(9) تفسير الطبري، سورة آل عمران، الآية: (159).

(10) رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي دجانة سماك بن خرشة رضي الله تعالى عنه، رقم: (2470).



بحث عن بحث