الوقفة الثانية: القوة والضعف للمؤمن

وهذه وقفة مهمة، بين فيها الرسول غ أمرًا مهمًّا وجديرًا بالوقوف معه وتأمله.

الإنسان بطبيعته مخلوق ضعيف كما قال الله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا}(1)، لكنه يكون قويًا إذا ما باشر أسباب القوة، وتمسَّك بمنهجها، يقول تعالى:{إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا . إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا . وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}(2)، هذه صفة الإنسان لكنه يتحول عن هذه الصفة المشينة إذا عمل أسباب هذا التحول، فذكر الله تعالى هذه الأسباب فقال: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ . الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ . وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ . لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ . وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ . وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ . إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ . وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ . أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ}(3).

والرسول صلى الله عليه وسلم أطلق هنا هذه القوة؛ فعرفنا أنها عامة تشمل:

1-القوة الإيمانية التي ترسخ في قلب المؤمن لا يزعزعها شك، ولا تخدشها شبهة، ولا تعصف بها شهوة، ولو كان المؤمن ضعيف الجسم، ولكن إيمانه يكون أقوى من الجبال، وقد ضحك بعض الناس لدقة ساق ابن مسعود رضي الله عنه، فأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أثقل في الميزان من جبل أُحُد، ففي مسند أحمد عن علي رضي الله عنه قال: أَمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ مَسْعُودٍ، فَصَعِدَ عَلَى شَجَرَةٍ، أمَرَهُ أنْ يَأْتِيَهُ مِنْهَا بِشَيْءٍ، فَنَظَرَ أصْحَابُهُ إِلَى سَاقِ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ حِينَ صَعِدَ الشَّجَرَةَ فَضَحِكُوا مِنْ حُمُوشَةِ سَاقَيْهِ –أي: دقة أقدامه وصغرها- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مِمَّ تَضْحَكُونَ؟ لَرِجْلُ عَبدِ الله أثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ أحُدٍ«(4).

والقوة الإيمانية لا تأتي حتى يعمل العبد بأسبابها وعواملها، وهي:

أ- التعلُّق بالله: فكلما كانت علاقة العبد بالله قوية تزداد قوته الإيمانية وتنمو؛ فلا يرجو إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يحب أو يبغض إلا لله سبحانه وتعالى.

ب- الدعاء: فالعبد فقير محتاج ضعيف، لا حول له ولا قوة إلا بالله، فعليه أن يتوجه إلى ربه في كل صغير وكبير، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا، حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إذَا انْقَطَعَ»(5). أي: جلد نعله الذي يربط به.

ج- التفكُّر في مخلوقات الله تعالى، واستشعار عظمة الله جل جلاله: قال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(6) قال ابن كثير :{َيَتَفَكَّرُونَ} أي: يفهمون ما فيهما من الحِكَم الدالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه وحكمته واختياره ورحمته، وقد ذمَّ الله تعالى مَن لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته.

د- العلم: والعبد كلما زاد تفقهه في الدين زادت قوته الإيمانية، «ومَن يُرِد الله به خيرًا يفقهه في الدين«.

هـ- الذكر: قد سبق أن ذِكرَ الله تعالى يُقَرب العبد إلى الله، ويزيد في قوّته الإيمانية، وذِكْر الله سلاح قوي ضد الشيطان وأعوانه، فالعبد المؤمن يكون لسانه رطبًا بذكر الله ﻷ.

و - قراءة القرآن: ليس كلام أحب إلى الله من كتابه ﻷ، فعلى العبد أن يتقرّب إلى الله بتلاوته، وفهمه، والعمل بأوامره، والانتهاء من نواهيه.

ز - الأعمال الصالحة: وكل عمل صالح أخلصه صاحبه لله ﻷ يقوّي إيمان العبد يزيده.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [النساء:28]

(2) [المعارج: 19-21]

(3) [المعارج: 22-35]

(4) رواه أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة)، رقم: (922).

(5) رواه الترمذي في الدعوات، باب ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، رقم: (3604).

(6) [آل عمران:190-191]



بحث عن بحث