المسألة الثانية: حكم إنكار المنكر

نعود إلى أصل المسألة فنقول: اختلف فيها على قولين:

1-    الجمهور من أهل السنة وغيرهم قالوا: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب بالشرع.

2-    المعتزلة قالوا: إنه واجب بالعقل، ولا شك أن الصحيح القول الأول.

يقول النووي :: «ووجوبه بالشرع لا بالعقل، خلافًا للمعتزلة«

ويقول الماورديُّ:(1): «وإنما اختلفوا في وجوب ذلك، هل وجب عليهم بالعقل أو بالشرع؟ فذهب بعض المتكلمين إلى وجوب ذلك بالعقل؛ لأنه لمَّا وجب بالعقل أن يمتنع من القبيح وجب -أيضًا- أن يمتنع غيره منه؛ لأن ذلك أدعى إلى مجانبته، وأبلغ في مفارقته... إلخ«.

      الأمر الثاني:

هل الوجوب عينيُّ أم كفائيُّ؟ بمعنى: هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين على كل المكلفين، أم هو فرض كفاية على الأمة، إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين؟

للعلماء قولان:

القول الأول: أن الوجوب عيني لا كفائي. ذهب إلى هذا طائفة من أهل العلم، منهم ابن حزم، والخازن، وغيرهم مستدلين بهذا الحديث: «من رأى منكم منكرًا...» الحديث.

وبقوله تعالى{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، ووجه الدلالة: أن (من) عندهم لبيان الجنس لا التبعيض، والمقصود: لتكونوا كلكم، مثل قوله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ} ، أي: كلها لا بعضها.

قال الزجاج: «ولتكونوا كلكم أمة تدعون إلى الخير وتأمرون بالمعروف، ولكن (من) تدخل ههنا لتخص المخاطبين من سائر الأجناس، وهي مؤكدة أن الأمر للمخاطبين، ومثل هذا من كتاب الله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} ، ليس يأمرهم باجتناب بعض الأوثان، ولكن المعنى اجتنبوا الأوثان فإنها رجس«(2).

القول الثاني: أن الوجوب كفائي لا عيني، وذهب إلى هذا القول الجمهور من المتقدمين والمتأخرين، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، والغزالي، وابن مفلح، وابن العربي، والنووي، والزمخشري وغيرهم، مستدلين بما يلي: بالآية والحديث السابقين، يقول القرطبي: «(ومن) في قوله: {مِّنكُمْ} للتبعيض، قيل لبيان الجنس، والقول الأول أصح«(3).

ويقول الغزالي: «وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين، وأنه إذا قام به أمة سقط الفرض عن الآخرين؛ إذ لم يقل: كونوا كلكم آمرين بالمعروف، بل قال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ}، فإذا ما قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين، واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين، وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون عمَّ الحرج كافة القادرين عليه لا محالة«(4)

هذان هما القولان، لكن الذين قالوا بالقول الثاني أفردوا حالات يكون الوجوب فيها عينيَّا، منها:

1-    أنه فرض عين على من ينصبه ولي الأمر لذلك، فأصبح فرضًا عليه بحكم مسئوليته المباشرة.

2-    إذا كان المعروف في موضع تطمس معالمه، والمنكر يقترف فيه، ولا يعرف ذلك إلا رجل واحد تَعَيَّنَ عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول ملا علي القاري: «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إن علم به أكثر من واحد، وإلا فهو فرض عين على من رآه«.

3-    إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى جدال واحتجاج ومناقشة كان فرض عين على من يصلح لذلك، يقول ابن العربي: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، وقد يكون فرض عين إذا عرف المرء من نفسه صلاحية للنظر والاستقلال بالجدال، أو عُرِف ذلك منه«.

4-    إذا كان لا أحد يقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يقوم به غيره فهو فرض عين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهو فرض على الكفاية، ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره»، مثل الوالد والزوج.

5-    الإنكار القلبي، يقول ابن النحاس: «وأما الإنكار بالقلب وهو كراهة تلك المعصية، فلا يسقط عن مكلف بوجه من الوجوه؛ إذ لا عذر يمنعه«

(5)وبعد: فلو تدبرنا كلا القولين لوجدنا أن القولين قويان، لكنَّ رأي الجمهور أقرب إلى الصواب. والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أدب الدنيا والدين (101).

(2) معاني القرآن وإعرابه، للزجاج (1/ 452).

(3) الجامع لأحكام القرآن (4/165).

(4) الإحياء (2/307).

(5) تنبيه الغافلين، لابن النحاس (ص: 12).



بحث عن بحث