المبحث الثاني: التحليل اللفظي للحديث

هذه الجملة: «أما هذا فقد قضى ما عليه» يقول النووي فيها: «ففيه تصريح بالإنكار -أيضًا- من أبي سعيد، فأفاد موافقة أبي سعيد رضي الله عنه للرجل».

قوله: «من رأى منكم منكرًا».

«من»: اسم شرط جازم مبتدأ.

«رأى»: بمعنى: علم(1).

ظاهر النص: أن التغيير معلق بالرؤية لا بالعلم، ولكن حمله على عموم العلم أقوى النصوص الواردة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعلم يتم عن طريق أي حاسة من الحواس، فقد يشم الخمر، ويلمس الأعمى أدوات اللهو، ويسمع الغيبة والنميمة، ويرى الفاحشة والتبرج، ويقرأ الكلام السيئ... وغير ذلك كما سيأتي بيانه في المسائل.

«منكرًا» المنكر: ضد المعروف وخلافه، والإنكار: الجحود، ويدور معناه غالبًا على ما جهله الناس واستنكروه وجحدوه واستهجنوه، كما أن المعروف: ما تعارف عليه الناس وعلموه ولم ينكروه.

أما في الاصطلاح الشرعي فقد عرف كل منهما بتعريفات متقاربة، نختار منها:

المنكر: كل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهو منكر(2).

المعروف: اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى،والتقربإليه،والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات(3).

ومن هذين التعريفين نلحظ ما يلي:

1-    شمول المعروف والمنكر لجميع أصول الشريعة وفروعها في العقائد، والعبادات والأخلاق والسلوك والمعاملات، سواء كانت واجبة أو محرمة، مندوبة أو مكروهة، فما كان منها خير فيدخل في باب المعروف، وما كان غير ذلك ففي باب المنكر.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :: «فاسم المنكر يعمُّ كل ما كرهه الله ونهى عنه، وهو المبغض، واسم المعروف يعم كل ما يحبه الله ويرضاه ويأمر به، بحيث إذا أفرد بالذكر فإنهما يعمان كل محبوب في الدين ومكروه»(4).

وبناءً عليه فيتبين لنا أمران:

أ‌-      أن من يظن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة تعنى بتصحيح السلوك والأخلاق فحسب، ومن هنا يكتفي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بوعظ الناس وتذكيرهم بتلك الأخلاق والفضائل، وحينئذ يظن نفسه أنه قام بهذه المهمة، ومثله لو قصَّر مهمة الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر على أي جزئية من جزئيات الشرع.

ب‌-    في حال ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجتمعين أو منفصلين، فإن كانا مجتمعين فكما ذكرنا في التعريف، وإن كانا منفصلين فكل واحد يتضمن الآخر، فالأمر بالمعروف إذا لم يقرن به النهي عن المنكر يدخل فيه النهي عن المنكر، والعكس صحيح.

2-    من خلال ما سبق يتبين لنا أن السبيل لمعرفة المعروف والمنكر هو الشرع، فما عدَّه الشرع معروفًا فهو كذلك، وما عدَّه منكرًا فهو كذلك، سواء عده الناس كذلك أم خالف تصورهم، أو تصور بعضهم، أو لم يخالفه. وليس للعقل وحده بمعزل عن الشرع أن يحد المعروف والمنكر كما هو عند بعض الطوائف التي انحرف تصورها في هذا الباب؛ فذكروا أن المنكر ما تحكم العقول الصحيحة بقبحه، فهذا لا شك تصور خاطئ؛ لأن العقل الصحيح السليم لا يخالف الشرع، ومن قال بهذا القول ونحوه، يظهر أنه بنى رأيه على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قاله المباركفوري (6/ 393).

(2) ينظر: النهاية، لابن الأثير (5/ 115).

(3) ينظر: النهاية، لابن الأثير (3/ 216).

(4) الفتاوى (15/ 348).



بحث عن بحث