الاعتدال والنهي عن الغلو

عن أبي هريرة رضي الله عنه  عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة».

عن أنس بن مالك رضي الله عنه  قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم  يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم  فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم  قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم  إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».

©  أهمية موضوع هذين الحديثين:

يقول الإمام ابن القيم : حول منهج الإسلام المتوازن ورعايته لمصالح الخلق، مبينًا أهمية الاعتدال والتوسط في الأمور كلها وبخاصة في العبادات، يقول :: «إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكمة ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة».

©  مسائل الحديثين:

1-   بعث الله تعالى نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وجعله خاتم النبيين ورسالته خاتمة الرسالات، فأتم به النعمة، وأكمل به الدين قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. فجاء دين الإسلام دينًا كاملًا يتصف بالشمول والكمال والوسطية والاعتدال والقيام على اليسر والسماحة.

2-   قرر الحديثان أن هذا الدين يسر فهو يسر في جميع تعاليمه وتوجيهاته ابتداءً بتوحيد الله تعالى، ثم شعائره التعبدية من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها.

مثال ذلك:

إن الله سبحانه وتعالى أوجب على عباده أن يعبدوه مباشرة بدون أي وسائط، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

فلو تصور متصور أنه لا بد من وسيط لعبادة الله تعالى كم في ذلك من العسر والمشقة.

مثال آخر:

إذا عجز المسلم عن استعمال الماء في الوضوء لمرض، أو لم يستطع الحصول عليه فإنه يتيمم ويكفيه ذلك والحمد لله.

3-   اليسر الذي نص عليه في الحديث الأول، وأكده الرسول صلى الله عليه وسلم  في الحديث الثاني في قصة هؤلاء الثلاثة، جاء تأكيده أيضًا في نصوص أخرى من القرآن الكريم والسنة النبوية. قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. ووصف الله تعالى مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم  بذلك فقال سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157].

4-   يفيد الحديثان أن الرسول صلى الله عليه وسلم  اتخذ الاعتدال والوسطية منهجًا يسير عليه في حياته كما نص على ذلك صراحة الحديث الثاني، ويؤكده ما روته عائشة ك أن الرسول صلى الله عليه وسلم  ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.

ولذا يجب على المسلم أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيتخذ الاعتدال الشرعي منهجًا له في حياته، فلا إفراط ولا تفريط.

5-   كما نص الحديث الأول على وصف الدين باليسر فقد نهى الحديث الثاني عن شيء من ضده وهو الغلو والتشدد في الدين ما لم يدل عليه دليل شرعي، ولذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم  على هؤلاء الثلاثة الذين حادوا عن منهج الوسطية إلى التشدد المنهي عنه، واعتبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم  منحرفين عن المنهج الصحيح، حتى ولو كان هذا الغلو في أمر العبادات المباشرة مع الله تعالى كالصلاة والصيام ونحوها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إياكم والغلو...».

6-   على المسلم أن يعمل في ضوء الدليل الشرعي قدر استطاعته وإمكاناته فيعمل بما فرض الله عليه، ويعمل ما يستطيع من المستحبات بحسب ما منحه الله تعالى، وهذا ما أكده الرسول صلى الله عليه وسلم  بقوله: «ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة»، ويؤكده ما رواه أحمد وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  سئل أي الإيمان أحب إلى الله؟ فقال: «الحنيفية السمحة» وفي لفظ: «بعثت بالحنيفية السمحة».

7-   إن الابتعاد عن منهج اليسر والسماحة إلى مناهج أخرى من التشدد والغلو المنهي عنهما أو التساهل يخلف آثارًا سلبية على الفرد نفسه وعلى المجتمع والأمة ومن ذلك:

أ – الفهم الخاطئ للشريعة واتهامها بما ليس فيها لأن الله سبحانه وتعالى أعلم بما يصلح أحوال الناس وما تستقيم به حياتهم، فإذا خالف المخالف فقد فهم الشريعة على غير ما وضعها الله سبحانه وتعالى فحاد عن الطريق المستقيم.

ب- الفهم الخاطئ لمقاصد الشريعة، فالشريعة بنيت على مقاصد كبرى، بها يفهم الدين وتعرف أحكامه فإذا عمل العامل بمنهج مخالف لليسر اختل فهمه لمقاصد الشريعة الكبرى.

ج- التكلف والتنطع المنهي عنهما فإذا حاد المسلم عن هذا المنهج الوسط وقع في تكلف وتشدد والرسول صلى الله عليه وسلم  نهى عن التكلف.

د- عدم إطاقة العمل المتشدد فيه كما دل على ذلك الحديث الثاني.

هـ - وفي ذلك أيضًا رمي الإسلام بما ليس فيه، وهو منه براء.

8-   إن تقرير مبدأ اليسر والوسطية والنهي عن التشديد والغلو لا يعني:

أ – الإخلال بمقاصد الشريعة بحيث يجر هذا الأمر إلى التساهل والتفريط.

ب- الإخلال بالمفاهيم الإسلامية بحجة التيسير والتسهيل.

ج- أن يتجاوز الحلال إلى الحرام.

د- تحكيم الأهواء والرغبات والأمزجة الشخصية، فتفسر نصوص الشريعة حسب أهواء الناس ورغباتهم فالمرجع في ذلك إلى الشرع.

وبناءً على هذه الضوابط يعمل المسلم بمنهج الإسلام المبني على اليسر والسماحة.



بحث عن بحث