الحلقة التاسعة
المطلب الثاني: التجرد لطلب الحق (1)
إن من أسس البناء الثقافي في الإسلام البحث عن الحق وتلمسه للالتزام به والعمل بمقتضاه، والمراد بالحق العلم الصحيح الذي يشهد بصدقه الدليل والبرهان([1]).
والذي لا ريب فيه أن ثمة حقائق موضوعية ثابتة؛ فحقائق الإيمان والإسلام واضحة وجلية، والحقائق الكونية، والنواميس التي يسير عليها هذا الكون كلها حقائق ثابتة لا تتغير أدركها الباحث أو لم يدركها.
وأجل حق يجب أن تتطلع له النفوس وتجتهد أن تستقيم عليه هو الإيمان بالله تعالى والقيام بحقه والاستقامة على دينه ] ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [ [ الحج: 62].
والنبي صلى الله عليه وسلم والرسل قبله - عليهم الصلاة والسلام- جاءوا بالحق، ودعَوا إليه بأبين الحجج، وبلغوه بعزمٍ وإخلاص، وحذروا من الباطل أشدَّ التحذير، ونهوا عنه، وبينوا سوء عاقبته، قال الله تعالى: ] رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [ [النساء:165].
بل إن من الحق ما لا سبيل إلى معرفته إلى عن طريقهم – كما تقدم-، مما يوجب الإيمان بهم، والتسليم لما جاءوا به.
والحق عندما تؤثره النفوس تصلح به، وتعيش في كنفه في هدى وأمن وصفاء؛ تفيض بالخير، وتبذل المعروف، وتسمو عن الرذائل والآثام.
كما أن من ثمرات الاستجابة للحقيقة والانفعال بها استنارة العقل والقلب، وتحقيق الاستقرار النَّفسي الذي لا غنى عنه في مسيرة الإنسان الإيجابية في الحياة.
وإذا تنكر الناس للحق وأعرضوا عن هداه فسدت ضمائرهم، وساءت أحوالهم، واختلفت قلوبهم، وعاشوا في قلق واضطراب وفرقة.
وكفى بالحق علواً أن تعترف القلوب به، وتذعن لحقائقه وإن كذبت به الألسن وخالفته الجوارح، قال تعالى: ] وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ[ [ النمل:14].
وقد مدح الله تعالى الذين التزموا الحق حينما عرفوه فقال تعالى: ] وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ[ [ المائدة:83].
وذم سبحانه الذين يعرفون الحق ولكنهم لا يستجيبون له في قوله: ] الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[ [ البقرة:146].
كما ذم سبحانه الذين يكتفون من الحق بما يوافق أهواءهم فقال تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا * أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [ [النساء150-151].
([1]) انظر: ابن حزم، علي بن أحمد، الإحكام في أصول الأحكام (1400هـ) بيروت، دار الآفاق الجديدة، (1/20، 24).