قرائن التَّرجيح والموازنة بين الرِّوايات المختلِفة .
ويظهر بعد التَّتبع والسبر أن القرائن المسلوكة عند علماء العلل نوعان :-
أ- قرائن أغلبية .
وهذه القرائن يعود الجمع والتَّرجيح إليها في أكثر الأحاديث ، وهي ستة :-
وهي تعدُّ من أقوى القرائن المسلوكة للتَّرجيح بين الرِّوايات المختلفة . واعتمدها كثير من الحفَّاظ السَّابقين . ومن أشهرهم يحيى القطَّان حيث قال : « كنَّا نظنُّ أنَّ الثَّوريَّ وهم فيه لكثرة من خالفه »(1) .
ونصَّ عليها الشافعي فقال : « والعدد أولى بالحفظ من الواحد »(2) .
وقال أيضاً : « إنَّما ندع تثبيت ما خالفه فيه غيره مما هو أكثر منه عدداً فأمَّا ما لم يكن يخالفه فيه أحد وهو لفظ غير الَّلفظ الذي خولف فيه وأمر غير الأمر الذي خولف ، فنثبته إذا لم يكن فيه مخالف »(3) .
وقال أيضاً : « إنَّما يغلط الرَّجل بخلاف من هو أحفظ منه ، أو يأتي بشيء في الحديث يشركه فيه من لم يحفظ منه ما حفظ ، وهم عدد وهو منفرد »(4) .
وقال أبو حاتم محتجاً بهذه القرينة في حديثٍ : « اتفق ثلاثة أنفس على التَّوصيل »(5) .
وقال ابن معين في حديث : « الناس يحدثون به مرسلاً »(6) .
وقال البيهقي : « وكما رجَّح الشَّافعي إحدى الرِّوايتين على الأُخْرَى بزيادة الحفظ ، رجَّح أيضاً بزيادة العدد »(7) .
وقال أيضاً : « والجماعة أولى بالحفظ من الواحد »(8) .
وقال الخطيب : « ويرجَّح بكثرة الرُّواة لأحد الخبرين ، لأن الغلط عنهم والسَّهو أبعد ، وهو إلى الأقلِّ أَقرب »(9) .
وقال الدَّارقطني في حديث : « واجتماع هؤلاء الأربعة على خلاف ما رواه ابن أبي كثير يدلُّ على ضبطهم للحديث »(10) .
وسئل الدَّارقطني عن الحديث إذا اختلف فيه الثِّقات ، فقال : « ينظر ما اجتمع عليه ثقتان فيحكم بصحته ، أو ما جاء بلفظة زائدة ، فتقبل تلك الزِّيادة من متقن ، ويحكم لأكثرهم حفظاً وثبتاً على من دونه »(11) .
وقال الذهبي : « وإن كان الحديث قد رواه الثَّبت بإسناد ، أو وقفه أو أرسله، ورفقاؤه الأثبات يخالفونه ، فالعبرة بما اجتمع عليه الثِّقات ، فالواحد قد يغلط ... »(12) .
وقال الصَّنعاني : « الملاحظ القرائن . والكثرة أحد القرائن »(13) .
وهذه القرينة إنما تفيد إذا كانت الرواة محتجاً بهم من الطرفين(14) المختلفين ، أما مع الضعف فالأمر يحتاج إلى قرائن أخرى .
وهذه القرينة - أيضاً - تعدُّ من أهم القرائن في التَّرجيح بين الرِّوايات المختلفة ، ويشمل الحفظ هنا حفظ الصدر ، وحفظ الكتاب .
أما حفظ الصدر(15) ، فقال ابن رجب : « قاعدة : إذا روى الحفَّاظ الأثبات حديثاً بإسناد واحد، وانفرد واحد منهم بإسناد آخر ، فإن كان المنفرد ثقة حافظاً فحكمه قريب من حكم زيادة الثِّقات في الأسانيد والمتون ... » ، قال : « ويقوى قبول قوله إن كان المرويُّ عنه واسع الحديث يمكن أن يحمل الحديث من طرق عديدة كالزُّهري والثَّوري وشعبة والأعمش »(16) .
وهنا اختلف الحفَّاظ في بعض الأحاديث قبولاً ورداً ، لأجل اعتبار هذا الأمر ، فقال ابن رجب بعد ذلك : « وقد تردَّد الحفَّاظ كثيراً في مثل هذا ، هل يردُّ قول من تفرد بذلك الإسناد لمخالفة الأكثرين له ؟ أم يقبل قوله لثقته وحفظه .
ومثَّل رحمه الله لذلك بحديث ميمونة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في الفأرة إذا وقعت في السَّمن .
حيث رواه أصحاب الزُّهري عنه عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ميمونة .
كذا رواه مالك وابن عيينة والأوْزاعي .
وخالفهم معمر ، رواه عن الزُّهري عن سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة .
قال ابن رجب : « فمن الحفَّاظ من صحَّح كلا القولين ، ومنهم الإمام أحمد ومحمد بن يحيى الذُّهليُّ وغيرهما ، ومنهم من حكم بغلط معمر لانفراده بهذا الإسناد ، منهم البخاريُّ »(17) .
ووافقه على اختياره التِّرمذيُّ في الجامع حيث قال عن رواية معمر : « غير محفوظ » ، ثم نقل قول البخاريِّ : « أخطأ فيه معمر . والصَّحيح حديث الزُّهريِّ عن عبيد الله ... »(18) .
كما وافقهم أبو حاتم الرَّازيُّ على ذلك(19) .
وقال الدَّارقُطني في حديث : « وعند الزهري فيه أسانيد أخرى صحاح » ، ثم ذكر جملة منها(20) .
والذي يظهر أن سعة رواية المحدِّث الحافظ كالزُّهري وقَتادة - مثلاً - قرينة خاصة - كما سيأتي - تدلُّ على صحة الوجهين عنه ، ومخالفة الرَّاوي الواحد لجماعة من الثِّقات الحفَّاظ ، قرينة عامة أقوى منها ، تدلُّ على وهم الوجه الذي أتى به عنه، فَيُحتاج إلى قرينة أخرى تسند ما قاله .
ومما يعضد رواية الجماعة أنَّ الَّليث رواه عن الزُّهري عن سعيد مرسلاً - كما ذكر الإسماعيليُّ(21) - فلعلَّ مَعْمَراً وهِم فزاد أبا هريرة .
وأكثر مسائل علم العلل دخولاً في هذه القرينة : زيادة الثِّقات .
هل تقبل مطلقاً ، أم تردُّ مطلقاً ، أم يفصَّل في ذلك ، ومن أين يؤخذ هذا التَّفصيل ومن المعتبر قوله في هذا الأمر . آلـمحدِّثون أم الفقهاء والمتكلمون من الأصوليين .
يعدُّ الشَّافعي من أوائل من قعَّد لهذه المسألة حيث قال : « ويكون إذا شرك أحداً من الحفَّاظ في حديث لم يخالفه ، فإن خالفه - وُجِدَ حديثه أنقصَ - كانت هذه دلائل على صحَّة مخرج حديثه »(22) .
قال ابن عبد الهادي معقِّباً على ذلك : « وهذا دليل من الشافعيِّ رحمه الله على أن زيادة الثِّقَة عنده لا يلزم أن تكون مقبولةً مطلقاً كما يقوله كثير من الفقهاء من أصحابه وغيرهم ، فإنه اعتبر أن يكون حديث هذا المخالف أنقص من حديث من خالفه ، ولم يعتبر المخالف بالزِّيادة ، وجعل نقصان هذا الرَّاوي من الحديث دليلاً على صحَّة مخرج حديثه ، وأخبر أنه متى خالف ما وصف أضرَّ ذلك بحديثه ، ولو كانت الزِّيادة عنده مقبولة مطلقاً لم يكن مخالفته بالزِّيادة مضراً بحديثه »(23) .
وقال الشافعي أيضاً : « إنَّما يغلط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه ، أو يأتي بشيء في الحديث يشركه فيه من لم يحفظ منه ما حفظ ، وهم عدد وهو منفرد »(24) .
وقال ابن حجر معقباً على كلامه : « فأشار إلى أن الزِّيادة متى تضمَّنت مخالفةَ الأحفظ أو الأكثر عدداً أنها تكون مردودة »(25) .
وحيث إنَّ هذه المسألة من أهم مسائل علم العلل ، فإنَّ نقل كلام علماء الحديث وعلله مما يزيد الأمر وضوحاً ، فمن المفيد جداً ذكر شيءٍ من ذلك نظرياً وعملياً .
(1) العلل للدارقطني (5/211) .
(2) اختلاف الحديث (ص127) وشرح العلل (1/425) .
(3) السنن المأثورة (481) - برواية المزني - والأم (8/563) .
(4) اختلاف الحديث (ص294) .
(5) العلل لابن أَبي حاتم (2/391) .
(6) رواية الدوري (2973) .
(7) القراءة خلف الإمام للبيهقي (316) .
(8) الشعب (4/7) .
(9) الكفاية (ص476) .
(10) السنن (3/44) .
(11) النكت لابن حجر (2/689) ، والنص ورد في سؤالات السلمي (435) بنحوه .
(12) الموقظة (ص52) .
(13) توضيح الأفكار (1/344) .
(14) قاله الزيلعي في نصب الراية (1/360) .
(15) يأتي ذكر حفظ الكتاب (ص45) .
(16) شرح العلل (2/719) .
(17) شرح العلل (2/722) .
(18) الجامع للترمذي (1798) والعلل الكبير (2/758-ترتيبه) .
(19) العلل لابنه (2/12) .
(20) العلل (1/44) .
(21) فتح الباري (9/826) ، عند حديث (5538) .
(22) الرسالة (1272) .
(23) الصارم المنكي (ص100) .
(24) اختلاف الحديث (ص294) .
(25) النكت لابن حجر (2/688) .