طرق معرفة علة الحديث
الأمر الثاني :- وهو تحديد المدار الذي حصل عليه الخلاف ، فيكون بالنَّظر في الرَّاوي المشترك بين الطُّرق ، ومعرفة الوجه الإسنادي الذي يأتي بعد ذكر اسمه ، وتحديد الرُّواة الذين اختلفوا عليه في كل إسناد وضمِّ كل راوٍ إلى الرَّاوي الذي وافقه في روايته عن ذلك الشَّيخ نفسه ، لذلك الوجه الإسنادي ، وتكرار ذلك حتى تتمَّ معرفة الأوجه التي اختلف فيها على ذلك الشَّيخ ومعرفة عددها ، والتَّنبُّه إلى احتمال وجود خلاف على التَّلاميذ أيضاً ، واستبعاد ما قد يظنُّ أنه اختلاف وهو خلاف ذلك ، كما لو ذكر أحد الرُّواة الاسم ، والآخر ذكر كنيته ، فيظنُّ من لا يعرفه التَّعدد .
ومن شواهد هذا الأمر في طلب تحديد المدار قول أبي حاتم في حديثٍ رواه الحُميديُّ عن ابن عيينة : « هذا عندي من ابن عيينة ، وابن الطَّبَّاع ثبت ، فقال ابنه عبد الرحمن : قلت أنا : حدثنا ابن المقريء عن ابن عيينة كما رواه الحُميديُّ ، وحدثنا سعد بن محمد البيروتي قال : حدثنا حامد بن يحيى عن ابن عيينة كما رواه الحُميديُّ . فدلَّ - لاتفاق هؤلاء الثلاثة – أنَّ الخطأ من ابن الطَّبَّاع »(1) .
الأمر الثالث :- الموازنة بين هذه الطُّرق بالفهم والمعرفة ، وتطبيق قواعد وطرائق المحدِّثين السَّابقين في التَّرجيح بين الرِّوايات المختلفة ، وتنـزيل كلامهم في الجزئيات على تلك الرِّوايات ، حيث إنَّ كلامهم في تلك الجزئيات بمجموعه يدلُّ على قواعد منهجية ساروا عليها دون خلاف أو اختلاف منهم لها من حيث الأصل ، ولا يعني ذلك أنَّ بعض الحفاظ قد لا يخالف إحدى القواعد في حديث ما ، فإذا خالف رجعنا إلى الأصل الذي أُخذ من خلال التَّطبيقات المتكرِّرة المتعدِّدة من ذلك الحافظ وبقية الحفاظ الآخرين . ومعرفة هذه القواعد والضوابط والإحاطة بمراتب الرُّواة في شيوخهم ليس بالأمر اليسير .
فإنَّ « حذَّاق النُّقاد من الحفَّاظ لكثرة ممارستهم للحديث - ومعرفة بالرِّجال وأحاديث كل واحد منهم - لهم فهمٌ خاص يفهمون به أَنَّ هذا الحديث يشبه حديث فلان ، ولا يشبه حديث فلان ، فيعلِّلون الأحاديث بذلك ، وهذا مما لا يعبر عنه بعبارة تحصره ، وإنَّما يرجع فيه أهله إلى مجرد الفهم والمعرفة التي اختصوا بها عن سائر أهل العلم »(2) .
واللهُ عز وجل قد خصَّ بمعرفة هذا العلم « نفراً يسيراً من كثيرٍ ممن يدَّعي علم الحديث ، فأما سائر النَّاس ممن يدَّعي كلام الحارث المحاسبي(3) والجنيد(4) وذي النُّون(5) وأهل الخواطر ، فليس لهم أن يتكلموا في شيء من علم الحديث إلا من أخذه عن أهله وأهل المعرفة به ، فحينئذٍ يتكلَّم بمعرفته »(6) .
فإذا ظهر لنا صحة حديث بعد النَّظر في إسناده وطرقه ، ووجدنا أن جماعةً من حفَّاظ الحديث على تضعيفه أو تعليله بعلة ، بدون خلاف معتبر بينهم ، فإنَّه من المتحتِّم علينا الأخذ بقولهم وترك ما عداه ، حيث إنَّ « اتفاق أهل الحديث على شيء يكون حجة »(7) .
قال ابن حجر : « فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمَّة المرجوع إليهم بتعليله ، فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صحَّحه ... ، وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلَّل ... ، وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام المتقدمين ، وشدة فحصهم ، وقوة بحثهم ، وصحة نظرهم ، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك ، والتسليم لهم فيه »(8) .
والسبب في ذلك أن الله عز وجل « بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالاً نقَّاداً تفرَّغوا ، فأفنوا أعمارهم في تحصيله ، والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله ومعرفة مراتبهم في القوة واللين . فتقليدهم ، والمشي وراءهم ، وإمعان النَّظر في تواليفهم ، وكثرة مجالسة حفَّاظ الوقت ، مع الفهم ، وجودة التَّصور ، ومداومة الاشتغال ، وملازم التقوى والتواضع ، يوجب لك - إن شاء الله - معرفة السُّنن النبوية ، ولا قوة إلا بالله »(9) .
قال ابن تيمية : « وقد يترك- أي البخاريَّ أو مسلماً - من حديث الثِّقة ما علم أنه أخطأ فيه ، فيظنُّ من لا خبرة له أنَّ كلَّ ما رواه ذلك الشَّخص يحتجُّ به أصحاب الصَّحيح ، وليس الأمر كذلك . فإن معرفة علل الحديث علم شريف يعرفه أئمَّة الفن ... »(10) .
وقال أيضاً : « ... فإنهم أيضاً يضعِّفون من حديث الثِّقَة الصَّدوق الضَّابط أشياء تبيَّن لهم أنه غلط فيها بأمور يستدلُّون بها ، ويسمُّون هذا "علم العلل" ، وهو أشرف علومهم ، بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط ، وغلط فيه ، وغلطه قد عُرِفَ »(11) .
وقال ابن القيِّم عند حديث عن مطر الورَّاق : « ولا عيب على مسلمٍ في إخراج حديثه ، لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضَّرب ما يعلم أنه حفظه(12) ، كما يطَّرح من أحاديث الثِّقة ما يعلم أنه غلط فيه ، فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثِّقة ، ومن ضعَّف جميع حديث سيِّء الحفظ . فالأولى طريقة الحاكم وأمثاله ، والثانية طريقة أبي محمد ابن حزمٍ وأشكاله ، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشَّأن ، والله المستعان »(13) .
وتقوم قواعد المحدِّثين في التعليل والتَّرجيح على قاعدة عامة مهمة تجمع علوم الحديث كلَّها ، وهي : « إعمال القرائن للجمع أو الترجيح » .
وهذه القاعدة قد نَصَّ على فحواها جماعةٌ من علماء الحديث والمصطلح .
قال ابن الصَّلاح عن العلل : « ويستعان على إدراكها بتفرُّد الرَّاوي ، وبمخالفة غيره له ، مع قرائن تنضمُّ إلى ذلك تنبِّه العارف بهذا الشَّأن ... »(14) .
وبنحوه قال العراقيُّ(15) .
فظهر من كلامهما أن العلَّة تدرك بثلاثة أمور هي :-
1. التَّفرد ، وهو أمر غالبي ، فكم من حديث معل رواه اثنان أو ثلاثة ، وقد لا يكون فيه مخالفة ، فهو أخص من المخالفة من وجه .
2. المخالفة ، وهو أخص من التفرد من وجه ، فقد يتفرد راوٍ بحديث يعله الحفاظ ، ولا يخالف في إسناده أحدٌ ، فبينهما عموم وخصوص وجهي .
3. القرائن .
وقال العلائي عند كلامه عن الاختلاف : « فإن استوى مع استواء أوصافهم وجب التَّوقف حتى يترجَّح أحد الفريقين بقرينة من القرائن ، فمتى اعتضدت إحدى الطَّريقين بشيء من وجوه التَّرجيح حكم بها ، ووجوه التَّرجيح كثيرة لا تنحصر ، ولا ضابط لها ، بالنسبة إلى جميع الأحاديث ، بل كلُّ حديث يقوم به ترجيح خاص ، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن ، الذي أكثر من الطرق والروايات »(16) .
وقال ابن عبد الهادي عند ذكر زيادة الثِّقات : « ... وتقبل في موضع آخر لقرائن تخصُّها ، ومن حكم في ذلك حكماً عاماً فقد غلط ، بل كل زيادة لها حكم »(17) .
فَفُهِم مما قال الفرقُ بين الحكم العام والقاعدة الكلية .
وقال ابن حجر : « ثم الوهم إن اطُّلع عليه بالقرائن الدَّالة على وهم راويه من وصل مرسل أو منقطع ، أو إدخال حديث في حديث ، أو نحو ذلك من الأشياء القادحة ، وتحصل معرفة ذلك بكثرة التَّتبع وجمع الطُّرق ، فهذا هو المعلَّل »((18) .
وقال أيضاً : « والذي يجري على قواعد المحدِّثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من القبول والردِّ ، بل يرجِّحون بالقرائن »(19) .
وقال : « فتبيَّن أن ترجيح البخاريِّ لوصل هذا الحديث على إرساله لم يكن لمجرد أن الوصل معه زيادة ليست مع المرسل ، بل بما يظهر من قرائن التَّرجيح »(20)
أما قول ابن دقيق العيد عن قبول الزِّيادة : « ذلك ليس قانوناً مطرداً ، وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول »(21) ، فلا يفهم منه خلاف ما سبق . لأنه نفى الحكم المطرد (العام) ، وهو ما عبر عنه بقوله : « قانوناً » .
ويوضحه قول البقاعي : « لا يحكمون فيها بحكم مطرد ، وإنَّما يديرون ذلك على القرائن »(22) .
وخلاصة ما سبق نقله ، أنَّ الحكم في علل الحديث ليس قولاً واحداً مطرداً في كلِّ حديث ، بل كلُّ حديث له حكم خاص به ، يعرف ذلك من قواعد عامة كلية استقرائية ، مجموعة من كلام الحفَّاظ ، من خلال أحكامهم على الجزئيات ، بتلمس الأسباب التي دعتهم إلى ترجيح رواية على أخرى مع سلامة المرجوح ابتداءً .
قال العلائي : « التعليل أمر خفي ، لا يقوم به إلا نقاد أئمَّة الحديث دون الفقهاء الذين لا اطلاع لهم على طرقه وخفاياه »(23) .
(1) العلل لابن أَبي حاتم (1/215) .
(2) شرح العلل لابن رجب (2/757-758) .
(3) هو أبو عبد اللهِ الحارث بن أسد البغدادي شيخ زاهد ، مات سنة 243هـ – السير (12/110) .
(4) هو الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي البغدادي القواريري ، إمام زاهد ، تفقه على أبي ثور ، ومات سنة 298هـ – السير (14/66) .
(5) هو ثوبان بن إبراهيم ، وقيل فيض بن أحمد النوري أبو الفيض ، روى عن مالك والليث ، وروى عنه الجنبد ، مات سنة 245هـ – السير (11/532) .
(6) شرح العلل لابن رجب (1/34) .
(7) قاله أَبُو حاتم فيما نقله عنه ابنه في المراسيل (307) .
(8) النكت لابن حجر (2/711) .
(9) فتح المغيث للسخاوي (1/274) ، وقوله بالتقليد ، أراد به المحمود منه وهو الاقتداء !
(10) مجموع الفتاوى (18/42) .
(11) مجموع الفتاوى (13/352-353) .
(12) يعضده قول الإمام أحمد في حسين بن قيس : « متروك الحديث ، وله حديث واحد حسن » - الكامل لابن عدي (3/218) .
(13) زاد المعاد (1/364) .
(14) مقدمة ابن الصلاح (ص116-التقييد والإيضاح) .
(15) التبصرة والتذكرة للعراقي (1/226) .
(16) النكت لابن حجر (2/712) وتوضيح الأفكار (2/38) ، وسيأتي ضابط هذه الأوجه - من حيث علم العلل - (ص 36) .
(17) نصب الراية (1/336) .
(18) نـزهة النظر (ص89) بتصرف .
(19) النكت لابن حجر (2/687) .
(20) النكت لابن حجر (2/607) .
(21) النكت لابن حجر (2/604) .
(22) توضيح الأفكار (1/340) .
(23) النكت لابن حجر (2/606) ، وقد سبق .