طرق معرفة علة الحديث
هذا المبحث من أهم المواضيع في علم العلل ، لأنه الثَّمرة والُّلب في تلك الدِّرَاسَة ، وهو كذلك من أصعب مسائله .
وقبل الحديث عنه يستحسن معرفة سبب إعلال الأئمة للحديث .
والجواب عنه بأن السبب الباعث على إعلالهم للمرويات التي ظاهر سندها الصحة هو : "الغرابة" .
وسبب هذا الاستغراب أمران هما :- المخالفة والتفرد .
ولذا اشتد نكير المحدثين على من اعتمد أو تتبع الأحاديث الغرائب والأفراد والفوائد ، لتضمن أكثرها المعلَّ من الأحاديث .
قال أحمد : « إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون هذا الحديث غريب أو فائدة فاعلم أنه خطأ أو دخل حديث في حديث » .
وقال أيضاً : « تركوا الحديث ، وأقبلوا على الغرائب ، ما أقلَّ الفقه فيهم » .
وقال أيضاً : « شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها »(1) .
وقال ابن معين : « ما أكذب الغرائب »(2) .
فالمخالفة والتفرد تستدعي استغراب العالم ، والغرابة تدل على بعض المخالفة . سواء كانت في السند أو المتن .
وأهم الأسباب التي قد تذكر في أسباب الإعلال راجعة - فيما يظهر لي - إلى سبب واحد هو المخالفة ، وينشأ عنها كثيراً لا دائماً : التفرد ، فبالاهتمام بهما ، يتمكن المرء من دراسة تعليلات العلماء ومعرفة علة الحديث وطريقة ذلك .
وطريقة معرفة علة الحديث إجمالاً تعتمد على أمور ثلاثة :-
1- جمع طرق الحديث المختلفة بتوسع عند الحاجة .
2- تحديد مدار الخلاف على من يكون ، والنَّظر في كل رواية هل فيها خلاف آخر . والنَّظر في حال رواتها وبلدانهم واختصاصهم بالرَّاوي المختلف عليه . قال ابن حجر : « مدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف »(3) ، ويتنبه إلى التأكد من سلامة المرويات جملة ، وأن الاختلاف على أصحاب المدار غير مؤثر في أصل الخلاف ، وإلا احتاج إلى دراسة مستقلة .
3- التَّرجيح بين الرُّواة أو الجمع بين رواياتهم على أسس علمية وقواعد منهجية مستنبطة من صنيع علماء العلل السَّابقين فحسب ، دون نظر إلى قواعد المنطق واحتمالات العقل .
وإلى هذا أشار الخطيب البغدادي بقوله : « والسَّبيل إلى معرفة علة الحديث :-
1- أن تجمع بين طرقه .
2- ويعتبر بمكانهم من الحفظ ، ومنـزلتهم في الإتقان والضَّبط »(4) .
أما الأمر الأول :- فمن شواهده من كلام المحدِّثين السَّابقين قول ابن المبارك : «إذا أردت أن يصحَّ لك الحديث ، فاضرب بعضه ببعض »(5) .
وقال أحمد : « الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه ... »(6) .
وقال ابن المديني : « الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه »(7) .
وقال ابن معين : « اكتب الحديث خمسين مرةً ، فإن له آفاتٍ كثيرة » .
وقال أَيضاً : « لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه »(8) .
ويوضِّحه قوله أيضاً : « إنَّ حماد بن سلمة كان يخطئ ، فأردت أن أميِّز خطأَه من خطأ غيره ، فإذا رأيت أصحابه قد اجتمعوا على شيء ، علمت أن الخطأ من حماد نفسه(9) ، وإذا اجتمعوا على شيء عنه وقال واحد منهم خلافهم ، علمت أن الخطأ منه لا من حماد ، فأميِّز بين ما أخطأ هو بنفسه ، وبين ما أُخْطِئَ عليه »(10) .
قال الميموني : « تعجب إليَّ أبو عبدالله يعني أحمد بن حنبل ممن يكتب الاسناد ويدع المنقطع ، ثم قال : وربما كان المنقطع أقوى إسنادا وأكبر ! قلت : بينه لي كيف ؟ قال : تكتب الإسناد متصلاً وهو ضعيف ويكون المنقطع أقوى إسناداً منه وهو يرفعه ثم يسنده وقد كتبه هو على أنه متصل وهو يزعم أنه لا يكتب إلا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه لو كتب الاسنادين جميعاً عرف المتصل من المنقطع يعني ضعف ذا وقوة ذا »(11) .
وقال أبو حاتم : « لو لم نكتب الحديث من ستين وجهاً ما عقلناه »(12) .
وهذه القصة على طولها تدلُّ على ما ذكر من النَّظر إلى مَن أخطأ ومَن أُخْطِئَ عليه . قال عبد الرحمن بن مهدى : « ما رأيت صاحب حديث أحفظ من سفيان الثَّوري حدَّث يوماً عن حماد بن أبى سليمان عن عمرو بن عطيَّة عن سلمان الفارسي قال : البصاق ليس بطاهر . فقلت : يا أبا عبد الله هذا خطأ ! فقال لي : كيف ! عمَّن هذا ؟ قلت : حمَّاد عن ربعي عن سلمان . قال : من يحدَّث به عن حماد ؟ قلت : حدثنيه شعبة عن حمَّاد عن ربعي ، قال : أخطأ شعبة فيه ثم سكت ساعة ، ثم قال : وافق شعبة على هذا أحد ، قلت ، نعم ، قال : من ؟ قلت : سعيد بن أبى عروبة وهشام الدَّسْتَوائي وحمَّاد بن سلمة ، فقال : أخطأ حماد هو حدثني عن عمرو بن عطيَّة عن سلمان ، قال عبد الرحمن : فوقع في نفسي ، قلت : أربعة يجتمعون على شيء واحد . يقولون عن حماد عن ربعي ، فلما كان بعد سنة أخرى سنة إحدى وثمانين ومائة أخرج إليَّ غندر كتاب شعبة فإذا فيه عن حماد عن ربعي ، وقد قال حمَّاد مرة : عن عمرو بن عطيَّة ، قال عبد الرحمن : فقلت : رحمك الله يا أبا عبد الله . كنت إذا حفظت الشَّيء لا تبالي من خالفك »(13) .
وقال أيوب السَّختياني : « إذا أردت أن تعرف خطأ معلمك فجالس غيره »(14) .
وبما ذُكر ظهرَ علم الجرح والتَّعديل وعلم العلل .
قال أبو زرعة : « نظرت في نحو من ثمانين ألف حديث من حديث ابن وهب بمصر ، وفي غير مصر ، ما أعلم أني رأيت له حديثاً لا أصل له »(15) .
ومن رام - في هذا الزمن - جمعَ عُشْرِ ما ذكر أبو زرعة لما استطاع .
فبرواية الغير تظهر علة الحديث غالباً كما قال أبو حاتم الرازي في حديث : « وروى أبو معاوية الضَّرير عن هشام بن عروة فأظهر علة هذا الحديث »(16) .
(1) الكفاية (ص172) .
(2) رواية الدوري (541) .
(3) النكت (2/711) .
(4) الجامع للخطيب (2/452) .
(5) الجامع للخطيب (2/452) .
(6) المجروحين لابن حبان (1/33) والجامع للخطيب (2/315) .
(7) الجامع للخطيب (2/316) .
(8) المجروحين لابن حبان (1/33) والضعفاء لابن شاهين (ص42) والجامع للخطيب (2/315) والإرشاد للخليلي (2/595) .
(9) تأتي قصة تدل على هذا التقعيد (ص 28) .
(10) المجروحين لابن حبان (2/32) ، وأعلها الذهبي بالانقطاع – السير (7/456) .
(11) الجامع للخطيب (1576) .
(12) فتح المغيث (2/370) .
(13) تاريخ بغداد (9/168) .
(14) سنن الدارمي (649) ، وهذا النص يصلح قاعدة لكل العلوم .
(15) الجرح والتعديل لابن أَبي حاتم (1/335) ، كذا ذكر أبو زرعة ، بينما قال أحمد في رواية المروذي (456) : « إيش كان عنده من الحديث » ، ولعله يعني به المرفوع .
(16) المراسيل (ص118) .