التخريج الموسّع
هو غاية التخريج، ونهاية المطاف، وهو التخريج الذي يقوم فيه المخرِّج بإيراد الحديث بأسانيده مع الكلام على رواته، وبيان درجته، وتوضيح الغامض في متنه، ثم يذكر ما يكون له من شواهد، وما يقع فيه من علل، ونحو ذلك، ومن أمثلته:
1. البدر المنير لابن الملقن، وقد طبع في عشرة مجلدات.
2. نصب الراية للزيلعي، وهو مطبوع في أربعة مجلدات.
3. إخبار الأحياء بأخبار الإحياء للعراقي، وهو مفقود.
دواعي التخريج الموسّع:
1. إثبات تواتر حديث ما، أو إثبات شهرته، أو استفاضته، فإذا كان هذا غرضًا من التخريج فإنه لا يتأتى بغير تخريج موسع.
مثاله: حديث المسح على الخفين، فقد توسع الزيلعي في نصب الراية (1/ 164) في تخريجه، وغرضه من التوسع ليس لإثبات الصحة، ولا لدفع العلة، وإنما قصد إثبات التواتر وشهرة الحديث.
2. الكشف عن العلة الواقعة في الحديث، أو دفع العلة عن الحديث، فجمع طرق الحديث وتتبعها، واستقصائها له دخل كبير، وأثر بالغ في إثبات العلة أو نفيها، قال ابن المديني: " الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تكشف علته".
مثال ذلك: حديث القلتين، فقد خرجه الدارقطني في سننه (1/ 13- 23) من نحو خمسة وعشرين طريقًا، واستطاع دفع العلة عن الحديث؛ نظرًا لزعم بعض العلماء وقوع الاضطراب في الحديث، وهذا مثال العلة التي دفعها العلماء عن الحديث.
ومثال العلة التي لا تندفع: حديث: (من حفظ على أمتي أربعين حديثًا من أمر دينها كنت له شافعًا)، فقد اتفق العلماء على أنه حديث ضعيف، وإن تعددت طرقه وكثرت، وتخريجه عند الزبيدي في مقدمة شرحه لإحياء علوم الدين (1/ 74- 77).
وحديث (أنا مدينة العلم وعلي بابها)، وقد ألف الشيخ أحمد بن صديق الغماري في تخريجه كتابًا سماه " فتح الملك العلي بتصحيح حديث مدينة العلم علي" ولكن لم يستطع دفع العلة عن الحديث.
3. إثبات الشهرة والاستفاضة للحديث لدفع الغرابة عنه ولو كان صحيحًا.
مثاله: في إتحاف السادة المتقين (4/ 394) حديث عموم المغفرة للحجاج، فقد ادعى ابن الجوزي تفرد عبد العزيز بن أبي رواد به، وأخرج الحديث في العلل المتناهية، ورد عليه الحافظ ابن حجر، وألف فيه جزءًا مستقلاً سماه" الحِجاج في عموم المغفرة للحجاج"، وحاصل كلام الحافظ فيه: أن الضياء المقدسي صحّح الحديث في المختارة، وأخرج أبو داود طرفًا منه، وسكت عليه، فهو عنده صالح، أي: على شرط الحديث الحسن، وأخرج له أيضًا طرقًا أخرى، يعضد بعضها بعضًا، وله شواهد في حديث ابن عمر، وأنس، وغيرهما، والله أعلم.
4. بيان كثرة مخارج الحديث، وهذا يختلف عن كثرة الطرق، ومعناه: كثرة العلماء الذين خرجوه, أو كثرة الصحابة الذين رووه، وفي نصب الراية (1/ 23): أن عثمان كان يخلل لحيته، أخرجه الزيلعي عن أربعة عشر صحابيًا، وتعرض له المناوي في " فيض القدير" (5/ 115)، وقال بعد ذكر طرقه التي ذكرها السيوطي: " قال الهيثمي: بعض هذه الطرق رجاله موثقون، وفي بعضه مقال.
وأشار المصنف باستيعاب مخرجيه إلى رد قول أحمد، وأبي زرعة لا يثبت في تخليل اللحية حديث.
5. جمع ألفاظ الحديث، وشرحها، وبيان أحكامها، وأكثر ما يشمل هذا العنوان الأحاديث المشكلة والمختلف فيها.
مثاله: حديث ليلة القدر، وباب التماسها في ليالي العشر، والتماسها في الوتر، ويبدأ أولاً بجمع الطرق ولفظ المتن عن ذلك الصحابي، ثم البحث عن الشواهد له.
وقد توسع الحافظ ابن حجر في الفتح (4/ 302)، والعيني في العمدة (11/ 134)، في جمع ألفاظ الحديث في ليلة القدر، وجمع الحافظ ابن حجر طرق الحديث التي يفسر بعضها بعضًا، واستدل لكل جزئية بأربعة طرق، فصار عدد أحاديث البحث كبيرًا موسعًا.
عناصر التخريج الموسّع
للتخريج الموسع عناصر لا بد من توفرها فيه، ولا يلزم ذلك في كل حديث في كتاب ما، وهذه العناصر هي:
1. سياق الحديث كاملاً مع إسناده، سواء كان للمؤلف نفسه أو كان منقولاً بكماله، ويقابل قولنا: سياق إسناد الحديث كاملاً، أن يكون الإسناد مختصرًا بذكر الصحابي فقط.
ومثال ذلك: نصب الراية، فإن الزيلعي يذكر سند المصدر الذي ينقل عنه، وكذلك ابن الملقن في البدر المنير، وطريقة الزيلعي أن يقول: قال أبو داود، ثم يسوق سند أبي داود.
2. سياق متن الحديث كاملاً، ولو كان الاستدلال يتعلق بجزء منه فقط، ويعزو الحديث إلى مصدر ينقل عنه، ومن أمثلته: حديث: (أعطيت ما لم يُعطَ أحد من الأنبياء قبلي) أورد الزيلعي الحديث بطوله في باب التيمم، ولم يقتصر على لفظه خاصة بالتيمم (1/ 159)، وحديث: (أعطيت خمسًا لم يُعْطَهُنَّ أحد من الأنبياء قبلي) وحديث: (فضلت على الأنبياء بستٍ) أورده أيضًا بطوله في أحاديث الصلاة في المقبرة والحمام (2/ 324).
وقد تكون علة الحديث اضطراب المتن، فيجمع المتون في صعيد واحد؛ لكشف العلة.
3. بيان حال الراوي المذكور في سند الحديث بالتفصيل، مثلما ورد في نصب الراية (3/ 8) في إبراهيم بن زيد، ويفعل ذلك العراقي في تخريج أحاديث الإحياء عن راوٍ فيه أقوال كثيرة، وقد يقول: فيه خلاف، من غير تفصيل، أو يذكر شيوخه، وتلاميذه، ومناقبه، والأقوال فيه.
وفي نصب الراية (3/ 57) في حديث: (الطواف بالبيت صلاة) ذكر هذا المتن ثم ذكر زياداته: (إلا أن الله أحلّ فيه النطق، فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير) وبعد ذكر الزيادات ذكر الخلاف في الرفع والوقف، ثم توسّع في ذكر حال عطاء.
4. جمع الأسانيد وطرق الحديث الواحد مع سياق ألفاظه، ويلجأ إلى هذا إذا كان مقصودُ المخرِّج.
أ- كشف المتابعات بالنسبة للسند.
ب- كشف الشواهد بالنسبة للمتن.
مثاله: حديث القلتين عند الدارقطني، وحديث مجيء جبريل في تعليم الناس أمور دينهم في كتاب الإيمان لابن منده.
5. بعد تخريج العالم لحديث الأصل، يأتي ذكر تخريج أحاديث الباب، وهي غير الحديث الأصلي، كما هو حال إشارة الترمذي بقوله: ( وفي الباب عن فلان وفلان).
ثم يأتي عالم ما يعالج هذا الاختصار فيتوسع فيها.
وللحافظ ابن حجر كتاب " فتح الباب في تخريج ما أشار إليه الترمذي بقوله: "وفي الباب" ولكن لا يعرف عنه شيء، ويعدّ الكتاب من ضمن التوسّع في التخريج.
ويهتم الزيلعي في نصب الراية بتخريج الأحاديث الواردة في الباب, وكذلك الحافظ العراقي في تخريج الإحياء الكبير.
وكذلك ابن الملقن في البدر المنير، فقد جمع في باب السواك أكثر من (30) ثلاثين ورقة، ويمكن أن يفرد هذا في كتاب مستقل، وطريقته فيه أنه يذكر الشواهد والمتابعات.
وما يذكر في الباب إما أن يكون من المتابعات أو من الشواهد، والشواهد أكثر من المتابعات؛ لأنها غالبًا أحاديث من طريق الصحابة الآخرين.
6. ذكر الحديث المعارض وتخريجه بالتوسع سواء استدل به أصحاب المذهب الآخر، أو كان الحديث منسوخًا، مع توسع مماثل للتوسع في الأصل.
ومثاله: صنيع الزيلعي في تخريج أحاديث الخصوم بالتوسع، واستفاد من ذلك الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي" التلخيص الحبير"، وتخريج أحاديث الهداية" الدراية".
7. قد يتعرض المخرِّج لشيء لا يدخل في التخريج، مثل تفسير بعض الألفاظ الغريبة، الواقعة في المتن المخرج، مثل ما جاء في "التلخيص الحبير" في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن التدبيج في الصلاة (1/ 241، 362)، وأنه رأى رجلاً نغاشيًا (2/ 11) والنغاش: هو القصير جدًا، ضعيف الحركة ناقص الخلق.
8. بيان بعض الاصطلاحات الحديثية، أو الفقهية أو الأصولية، مثل بيان الغلو، ودلالة المنطوق والمفهوم، وبيان الرخصة والعزيمة ( التلخيص الحبير، 1/18، 1/ 126).
9. تعقب المتأخر للمتقدم، مثل تعقب الزيلعي علي شيخه مُغْلَطَاي، أو تعقب ابن قطلوبغا على الزيلعي في " مُنيَة الألمعي" على الزيلعي.
وذلك بأن يقع الخطأ في عزو الحديث، فيتعقب المتأخر المتقدم، كما في حديث: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر)، وحديث: (لولا أن أشق على أمتي لأخرت العِشاء إلى ثلث الليل)، فقد تعقب الزيلعي (1/ 247) شيخه مغلطاي بعزوه هذا الحديث إلى أبي داود بكماله، وأبو داود لم يُخرِّج منه إلا فضل السواك، ولم يذكر فيه تأخير العشاء.