لقد تجلى لنا الآن مدى أهمية معرفة أسباب نزول القرآن وأسباب ورود الحديث في فَهم المعاني للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وما يتفرع على ذلك من استنباط الأحكام المتعلقة بهما.
والقرآن والسنة يحتاج كل منهما للآخر لمعرفة الأحكام الشرعية.
قال البيهقي: «ومعنى احتياج القرآن إلى السنة أنها مبينة له ومفصلة لمجملاته؛ لأن فيه لوَجَازته كنوزًا تحتاج إلى من يعرف خفايا خباياها فيبررها، وذلك هو المنزل عليه ?، وهو معنى كون السنة قاضية عليه، وليس القرآن مبينًا للسنة ولا قاضيًا عليها» (1).
قال السيوطي: «فعُرف من هذا وجوب احتياج الناظر في القرآن إلى معرفة أسباب نزوله، وأسباب النزول إنما تؤخذ من الأحاديث، والله أعلم» (2).
وقال الواحدي: «لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرّواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب وبحثوا عن علمها.» (3).
نخلص مما سبق من الأقوال إلى أمور:
1- هناك علاقة وثيقة بين معرفة أسباب نزول القرآن وأسباب ورود الأحاديث بين فهم المعنى الصحيح والوقوف عليه.
2- كلّ من أسباب ورود الحديث وأسباب نزول القرآن يعتمد على الرواية.
3- مدار الحكم على الرواية التي في أسباب ورود الحديث وأسباب نزول القرآن يكون على طريقة أهل الحديث دون غيرهم.
4- كلّ ما صحّ من أسباب نزول القرآن وأسباب ورود الحديث يكون حكمه الرفع وإن لم يُنص على ذلك.
ارتباط أسباب ورود الأحاديث بأسباب نزول القرآن:
والمقصود بذلك أن تنزل آية لقصة وقعت في عهد النبي ، ويرد الحديث النبوي في القصة نفسها، أو بمعنى آخر أن يكون سبب نزول الآية وسبب ورود الحديث واحد.
ومثال على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَيْهِ وَرَأْسُهُ يَتَهَافَتُ قَمْلًا فَقَالَ: «أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ» قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ «فَاحْلِقْ رَأْسَكَ»،
قَالَ فَفِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةِ أَوْ انْسُكْ مَا تَيَسَّرَ«صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ أَوْ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ»(4)
فهذا الحديث يصلح أن يذكر في أسباب نزول القرآن على أنه سبب نزول قوله تعالى: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)، ويصلح أن يذكر في أسباب ورود الحديث على أنه سبب ورود حديث: « صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ أَوْ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ» في ذكر فدية المحرم إذا حلق رأسه للأذى.
--------------------------------------
(1) «مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة» (ص 44).
(2) «مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة» (ص 46).
(3) - الواحدي في أسباب النزول (ص- 4)
(4) - متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب قول الله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ)، رقم (1814)، باب قول الله تعالى: (أَوْ صَدَقَةٍ) وهي إطعام ستة مساكين، رقم (1815)، باب الإطعام في الفدية نصف صاع، رقم (1816)، باب النسك شاة، رقم (1818)، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، رقم (4159)، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ)، رقم (4517)، كتاب الطب، باب الحلق من الأذى، رقم (5703)، كتاب كفارات الأيمان، باب قول الله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) ، رقم (6708)، مسلم: كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، رقم (1201).