ثانيا: تعريف أسباب ورود الحديث اصطلاحا:
سبب ورود الحديث: هو ما ورد الحديث بشأنه في وقت وقوعه.
فقولنا: "ما ورد الحديث": يخرج به القرآن الكريم إذ ما ورد في سبب نزوله يعتنى به في كتب أسباب نزول القرآن.
وقولنا: "بشأنه": أي بسببه، ومن أجله سواء أكان قصةً أو موقفًا أو سؤالاً، فخرجت به الأحاديث الابتدائية التى لم تذكر متحدثةً عن سبب أو قصة أو غير ذلك.
وقولنا: "وقت وقوعه": خرج به ما ورد من أسباب جاءت في غير وقت وقوع الحديث: كالأسباب التي جاءت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، أو ورد سؤال لأحد الصحابة فاستشهد ذلك الصحابي بحديث من أحاديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنا لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم الحديث وقت وقوع السبب، بل هذا من قبيل تنزيل الأحاديث على الوقائع المختلفة، وهذا يرجع إلى اجتهاد المجتهد، ومثاله:
ما أخرجه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» (1).
روى مسلم هذا الحديث عن عكرمة بن خالد أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر: ألا تغزو؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إِنَّ الإِسْلامَ بُنِيَ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ» (2).
أما ما ورد الحديث بسببه في وقت وقوعه فمثّل له الحافظ ابن حجر بقوله:
(ومنه حديث اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا من فضة، وجعل نقشه "محمد رسول الله"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كتب كتابًا أو أراد أن يكتب، فقيل له: إنهم لا يعرفون كتابًا إلا مختوما، فاتخذ خاتمًا من فضة نقشه: "محمد رسول الله"، كأني أنظر إلى بياضه) (3).
ومنزلة هذا العلم من الحديث كمنزلة علم أسباب النزول من القرآن، وسبب ورود الحديث يساعد في فهم المراد من الحديث كما سيأتي - إن شاء الله - لكنه لا يخصص عموم ألفاظه، فإذا جاء الحديث على سبب خاص فلا يصح أن يخصص الحكم المستفاد من هذا الحديث بهذا السبب، ولا يتعداه إلى غيره بل الراجح كما هو مقرر في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب(4).
قال الغزالي: (سبب ورود العام على سبب خاص لا يسقط دعوى العموم كقوله صلى الله عليه وسلم حيث مرَّ بشاة ميمونة: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» (5)، وقال قوم: يسقط عمومه، وهو خطأ) (6).
ومثال ذلك ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة قال: «مَنْ هَذِهِ؟»، قالت: فلانة. تذكر من صلاتها، قال: «مَهْ. عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ؛ فَوَاللَّهِ لا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ» (7).
قال ابن حجر:
(قوله: «عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ»، أي: اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يُطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق، وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون هذا خاصًّا بصلاة الليل، ويحتمل أن يكون عامًّا في الأعمال الشرعية، قلت: سبب وروده خاص بالصلاة، ولكن اللفظ عام، وهو المعتبر)(8).
--------------------------------------
(1) متفق عليه :أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب بني الإسلام على خمس (8).
(2) أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16).
(3) النكت على مقدمة ابن الصلاح (1 / 72).
(4) انظر: الإبهاج (2/185)، والمختصر في أصول الفقه (1/110).
(5) أخرجه مسلم: كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ (366) بنحوه بلفظ: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر»، وأخرجه أحمد في مسنده ( 1/219،270،343)، الترمذي: كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت (1728 )، النسائي: كتاب الفرع والعتيرة، باب جلود الميتة (4241 )، ابن ماجه: كتاب اللباس، باب لبس جلود الميتة إذا دبغت (3609 ) واللفظ لهم، وأصله متفق عليه أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب الصدقة على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (1492)،كتاب البيوع، باب جلود الميتة قبل أن تدبغ (2221)، كتاب الذبائح والصيد، باب جلود الميتة (5531)، مسلم: كتاب الحيض، باب طهارة جلود الميتة بالدباغ (363-365).
(6) المستصفى (1 / 236).
(7) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب أحب الدين إلى الله عز وجل أدومه (43)، كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد في العبادة (1151) واللفظ له، مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن (785)، وفيه ذكر اسم المرأة الحولاء بنت تويت بن حبيب بن أسد.
(8) فتح الباري (11/102).