القرآن الكريم معجزة المعجزات
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة )
أولا : تخريجه .
أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب فضائل القرآن ، باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل ( 4981 ) ، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ( بعثت بجوامع الكلم ) ( 7274 ) ومسلم في صحيحه ، كتاب الإيمان ، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ( 152 ).
ثانيا : معناه .
معنى الحديث : أن كل نبي من الأنبياء أعطاه الله من المعجزات الشيء الذي من صفته أنه إذا شوهد اضطر المشاهد له إلى الإيمان به ، وذلك إذا كان منصفا ، وإلا فقد تكون المعجزة قوية في إعجازها ، ملزمة في دلالتها ، ولكن قد يجحد بها مشاهدها ويعاند ، وذلك كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) [ النمل / 14 ]
والمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي صراحة أو ضمنا يجريه الله سبحانه على يد مدعي النبوة ، فإذا قام إنسان وادعى النبوة وقال : الدليل على صدقي أن يجري الله سبحانه على يدي ما يخالف المألوف من عادته ، ثم يتحدى الناس زرافات ووحدانا أن يأتوا بمثل ما أتى به ، وفيهم الكثيرون ممن هم على شاكلته ، بل ومن هم أشهر منه وأكثر ممارسة لما جاء به ، ثم لم يكن منهم إلا العجز ، وعدم الاستطاعة ، فلا شك أن هذا دليل قوي ، وبرهان ساطع على صدقه ، وأن ما جاء به من عند الله تبارك وتعالى .
والمعجزة في دلالتها على صدق النبي قائمة مقام قول الله سبحانه فيما لو أسمعنا كلامه :( صدق عبدي فيما يبلغ عني ) فمتى ظهرت المعجزة على يد إنسان ، وقارن ظهورها دعوى النبوة ، علم بالضرورة أن الله ما أظهرها إلا تصديقا لمن ظهرت على يده ، لأنه من المحال أن يؤيده الله وهو كاذب ، إذ تأييد الكاذب تصديق له ، وتصديق الكاذب كذب ، والكذب محال على الله سبحانه وتعالى .
معجزات الأنبياء ملائمة لأزمانها:
وقد شاء الله تبارك وتعالى أن تكون معجزات الأنبياء ملائمة لما اشتهر في أزمانهم حتى إذا عجز الناس عن الإتيان بمثلها كان ذلك أكبر شاهد على صدق من ظهرت على يده،ولا سيما أنها تظهر على يد من لم يعرف بالتبريز فيما اشتهر في زمنه. ألا ترى أن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام لما أرسل إلى قوم اشتهروا بالسحر والطلاسم وبعض العلوم الخفية أعطاه الله بعض آياته مناسبة وملائمة لما اشتهر في زمنه ، فكانت آيته الكبرى هي العصا ، تكون في يده عصا جامدة لا حس فيها ، فيلقيها فإذا هي حية تسعى تلتهم ما أمامها .
ولذلك لما حشر فرعون السحرة بحبالهم وعصيهم حتى خيل إلى الرائي من سحرهم أنها تسعى ، وألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون ، كان أول من آمن بالله هم السحرة ، لأنهم علموا علم اليقين أن عصا موسى عليه السلام ليست من السحر في شيء ، لأن أدرى الناس بالشيء هم أهله ، وأيقنوا أن ذلك لن يكون إلا من فعل القهار الذي لا يغالب ، اقرأ قول الله تعالى في سورة طه : (قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى* فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى* وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى* فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى)[ طه / 65 ــ 70 ] فلم يجد فرعون ــ شأن المغلوب المكابرــ بدا من أن يرميهم بأنه كبيرهم الذي علمهم السحر ، وتوعدهم بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وتصليبهم في جذوع النخل ، فلم ينل منهم التهديد ولا الوعيد ، لأنهم آمنوا عن يقين فقالوا كما قال الله تعالى : (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [ طه 72 ــ 73 ].
وسيدنا عيسى عليه السلام لما بعث في وقت كثر فيه الاشتغال بالطب وعلومه وإلى قوم برعوا فيه ، كانت آياته مناسبة لما اشتهر في عصره ، فكان يخلق لهم من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ، ويبرئ الأكمه ــ الذي ولد أعمى ــ والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله ، قال عز شأنه وتقدست أسماؤه :( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * َرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [ آل عمران / 48 ، 49 ] مع أن عيسى عليه السلام لم يكن ممن عرف بالنبوغ في الطب ، ولا ممن يمارسون هذه الصناعة ، فظهور مثل هذه الخوارق على يديه دليل على أنها من صنع الله ، وأنه صادق فيما ادعاه .
وخاتم النبيين وسيد البشر رسولنا محمد صلوات الله وسلامه عليه لما بعث في وقت اكتمل فيه العقل البشري وبلغت فيه البشرية سن الرشد ، واختير من قوم عرفوا بتملك زمام الفصاحة والبلاغة والتصرف في فنون القول وضروبه ، حتى كان غاية الشريف منهم أن يكون شاعرا مفلقا ، أو خطيبا مصقعا ، كانت آيته الكبرى قرآنا يتلى بلغ أقصى درجات الفصاحة والبلاغة مع الإصابة في القول ، والحكمة في التشريع ، والصدق في المعاني ، والنبل في المقاصد ، والسمو في الأخلاق والآداب قال صلى الله عليه وسلم: ( وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ) " وحيا " ، أي : كلاما معجزا حكيما أوحي إليه به من ربه وحيا جليا على لسان جبريل عليه السلام ، ليس لجبريل ولا للنبي صلى الله عليه وسلم فيه حرف ، وإنما هو من كلام رب العالمين (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) [ الشعراء / 193 ــ 195 ]
المراد به : أنه أوتي القرآن معجزة عظمى وآياته باقية على وجه الدهر ، لا تفنى آياته ، ولا تنقضي عجائبه ، وقد كانت معجزات الأنبياء السابقين حسية تنقضي بانقضاء أزمانهم ، فهي لمن شاهدها ، أما معجزة نبينا الكبرى فكانت معنوية فحسب ، ولذلك سر :
1 ــ ذلك أن رسالات الأنبياء السابقين كانت لبعض الناس ولزمان مؤقت محدد ، فهي محدودة بحدود الزمان والمكان ، خلا رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهي للناس كافة ، ومستمرة إلى يوم القيامة ، قال سبحانه :( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[ الأنبياء / 107 ] وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[ سبأ / 28] وقال تعالى (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [ الأعراف / 158 ] وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري (335 ) ومسلم (521 ) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما :( وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة ).
2 ــ وأيضا فقد جاءت الرسالة المحمدية في وقت بلغت فيه البشرية الكمال العقلي كما ذكرنا ، فاقتضت الحكمة الإلهية أن تكون آيته الكبرى معنوية باقية ما بقي إنسان ذو عقل وفكر على وجه الأرض .
والحصر المفهوم من كلمة ( إنما ) في قوله صلى الله عليه وسلم ( وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ) ليس حقيقيا ، وإنما هو ادعائي ، لأن القرآن هو معجزة المعجزات ، وآية الآيات ، فكأن المعجزات الحسية الأخرى لا تذكر بجانب القرآن الكريم .
وإذا كان الكلام سيق هذا المساق ، وخرج هذا المخرج فليس لأحد أن ينكر ما عدا القرآن العظيم من المعجزات الحسية التي ثبتت لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد ثبت له صلى الله عليه وسلم من المعجزات الحسية مثل ما ثبت لإخوانه الأنبياء ، بل وأكثر مما ثبت لهم ، منها ما ثبت بالقرآن الكريم المتواتر : كالإسراء تصريحا ، والمعراج تلويحا ، وانشقاق القمر ، ومنها ما ثبت بالأحاديث المتواترة والصحيحة : كنبع المياه من بين أصابعه الشريفة ، والبركة في القليل حتى يغني غناء الكثير كالطعام ، والماء ، ونحوهما (1).
نقل الإمام البيهقي عن الإمام الشافعي أنه قال : " ما أعطى الله نبيا شيئا إلا وأعطي محمدا صلى الله عليه وسلم ما هو أكثر منه ، فقيل له : أعطي عيسى ابن مريم إحياء الموتى ، فقال : حنين الجذع أبلغ ، لأن حياة الخشبة أبلغ من إحياء الميت ، ولو قيل : كان لموسى فلق البحر عارضناه بفلق القمر ! وذلك أعجب ، لأنه آية سماوية ، وإن سئلنا عن انفجار الماء من الحجر ؟ عارضناه بانفجار الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ، لأن خروج الماء من الحجر معتاد ، أما خروجه من اللحم والدم فأعجب ، ولو سئلنا عن تسخير الرياح لسليمان ! عارضناه بالمعراج "(2) .
وهكذا لو نهجنا منهج الإمام الكبير الشافعي لما عجزنا عن أن نجد لكل معجزة لنبي سابق مثلا لها أو أبلغ منها لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال الحافظ ابن حجر في فتحه : " وأما ما عدا القرآن من نبع الماء من بين أصابعه ، وتكثير الطعام ، وانشقاق القمر ، ونطق الجماد ، فمنه ما وقع التحدي به ، ومنه ما وقع دالا على صدقه من غير سبق تحد ، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده صلى الله عليه وسلم من خوارق العادات شيء كثير ، كما نقطع بوجود جود ( حاتم ) وشجاعة ( علي ) وإن كانت أفراد ذلك ظنية وردت مورد الآحاد ، مع أن كثيرا من المعجزات النبوية قد اشتهر ، وانتشر ، ورواه العدد الكثير ، والجم الغفير ، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار ، والعناية بالسير والأخبار ، وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه المرتبة ، لعدم عنايتهم بذلك ، بل لو ادعى مدع أن غالب هذه الوقائع مفيدة للقطع بطريق نظري لم يكن مستبعدا.
( فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ) أي وبما أني قد أعطيت هذه المعجزة العظمى ، وهي هذا الكتاب الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فإني أرجو أن يقرأه الناس على مر العصور ، وكر الدهور فيدخلوا في دين الله أفواجا ، فأكون أكثر الأنبياء أتباعا ، وقد تحققت هذه الرجاوة فإنه بفضل الله تعالى أكثر الأنبياء تبعا .
________________________________
(1) من هدي السنة في الدين والحياة للدكتور محمد أبو شهبة ص 27 ــ 30.
(2) مناقب الشافعي ص 38 .