شبهة حول التسمية والرد عليهم (2-2)
الوجه الثاني: زعم جولد تسيهر أن العرب لم يبتدعوا هذا المفهوم ولا تطبيقاته العملية؛ لأنه وجد سلفا لدى العرب الجاهلين... ومن هنا كان تعلق المسلمين بالسنة كتعلق العرب بسنن أسلافهم... إلى آخر ما قال.
إن جولد تسيهر بكلامه هذا يرمي - كعادته - إلى رد ما هو إسلامي إلى العوامل الداخلية والخارجية، بحيث ينفي عنه كل أصالة، أو تجديد، أو ابتكار.
(نحن لا ننكر أن العرب الجاهليين كانوا يطيعون أسلافهم، ويعبدون آلهتهم، ويهتدون بسنن أجدادهم، ويتمسكون بمعتقداتهم وأصنامهم؛ لأنهم وجدوا آباءهم لها عاكفين، وبتلك السنن فاعلين، وعلى آثارهم مهتدين، ولكن شتان بين مفهوم السنة في ذلك العصر ومفهومها في العصر الإسلامي، فهي ليست آراء عربية قديمة معدلة - كما قال جولد تسيهر-؛ ولكنها اتخذت مفهومها مغايرًا لسنن العرب الوثنيين، لأنها أصبحت مصدراً تشريعيًا لها حجيتها في تقرير الأحكام، وأصبح مصدرها إلهيا حالة كونها صادرة من الله، ولكنها مروية بألفاظ الرسول، ولأنها تناولت من الموضوعات والقضايا التي عالجت مشاكل ومفاهيم الدين الجديد، ولأنها صدرت كأوامر إلهية لا يجوز التنكب عنها كما يستطيع العرب الجاهليون التنكب عن سنن أسلافهم، وإن طاعة الرسول في ما يقوله، أو يفعله، أو يقرره واجب ديني لا مناص للمسلم من الالتفات عنه، ومن هنا فإن مفهوم السنة في العهدين مختلف ومتباين تمام الاختلاف، فالجاهليون يتمسكون بسنن أسلافهم تعصبًا، والمسلمون يتبعون سنة نبيهم تعبدا).
أما استشهاد (جولد تسيهر) بحديث الرسول الذي يدعو المسلمين إلى تتبع سنن من كان قبلهم... الخ، فهو قد شكك في هذا الحديث أولاً، لأنه قال عنه: (أسند إلى الرسول) ولم يقل (قال الرسول) ثم إنه أساء شرحه ثانيا، لأن مراد الرسول ليس دعوة المسلمين إلى التمسك بسنن أسلافهم الجاهليين، ولكنها دعوة إلى التمسك بسنة الرسول، وأثار الصحابة الكرام، وعدم الاختلاف والتفرقة مستقبلاً، وعدم الخروج على الجماعة، وتفادي الفتنة بقدر الإمكان، وقد أخبر النبي عن هذه الأمور جميعا في أحاديث أخرى (1)، ودعا المسلمين إلى التمسك بالسنة الصحيحة، والدخول في رأي الجماعة، وتجنب الفرقة والخلاف مهما كان الأمر، وإطاعة ولي الأمر حتى لا يتفرق رأي الجماعة، وتذهب قوة المسلمين أشتاتا، وكان تأكيده ذلك إخباراً منه لما سيحدث في أمته من تفرق واختلاف، وحثهم على تجنبها، كما يفهم من هذا الحديث أيضا دعوة المسلمين إلى التمسك بسنة النبي وسنة أصحابه حتى لا يتشبهوا باليهود، والنصارى، والروم، والفرس، وغيرهم من الأقوام، ومن هنا كان فساد استدلال (جولد تسيهر) بهذا الحديث في هذا السياق (2).
(1) منها ما أخرجه أبو داود في سننه (4597): (إلا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة).
(2) نقد الخطاب الاستشراقي (1/412-413).