وقال الخطيب البغدادي: (ولولا عناية أصحاب الحديث بضبط السنن وجمعها، واستنباطها من معادنها، والنظر في طرقها لبطلت الشريعة، وتعطلت أحكامها، إذ كانت مستخرجة من الآثار المحفوظة، ومستفادة من السنن المنقولة، فمن عرف للإسلام حقه، وأوجب للدين حرمته، أكبر أن يحتقر من عظم الله شأنه، وأعلى مكانه، وأظهر حجته، وأبان فضيلته، ولم يرتق بطعنه إلى حزب الرسول وأتباع الوحي وأوعية الدين، وخزنة العلم، الذين ذكرهم الله في كتابه فقال: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [ التوبة/100]. وكفى المحدث شرفا أن يكون اسمه مقروناً باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكره متصلاً بذكره (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) [ الحديد/21] والواجب على من خصه الله بهذه الرتبة، وبلغه هذه المنزلة، أن يبذل مجهوده في تتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه، وطلبها من مظانها، وحملها عن أهلها، والتفقه بها ، والنظر في أحكامها، والبحث عن معانيها، والتأدب بآدابها، ويصدف – يعرض – عما يقل نفعه وتبعد فائدته، من طلب الشواذ والمنكرات، وتتبع الأباطيل والموضوعات، ويؤتي الحديث حقه من الدراسة والحفظ ، والتهذيب والضبط...)(1).

وقال صديق حسن خان: (فهي – أي علوم الأحاديث – مصابيح الدجى، ومعالم الهدى، وبمنزلة البدر المنير ، من انقاد لها فقد رشد واهتدى، وأوتي الخير الكثير، ومن أعرض عنها وتولى فقد غوى وهوى وما زاد نفسه إلا التخسير ، فإنه صلى الله عليه وسلم نهى وأمر، وأنذر وبشر ، وضرب الأمثال وذكر، وإنها لمثل القرآن، بل هي أكثر- يعني في تفصيل ما تقدم بيانه – وقد ارتبط بها اتباعه صلى الله عليه وسلم الذي هو ملاك سعادة الدارين، والحياة الأبدية بلا مين.

كيف ؟ وما الحق إلا فيما قاله صلى الله عليه وسلم أو عمل به، أو قرره، أو أشار إليه،أو تفكر فيه ، أو خطر بباله، أو هجس في خلده واستقام عليه، فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب، والعمل العمل بهما في كل إياب وذهاب، ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء، ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء و (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) [ الحديد/21]. فياله من علم سيط بدمه الحق والهدى، ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى.

وقد كان الإمام محمد بن علي بن حسين رضي الله عنه يقول: (إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث). ولقد صدق فإنه لو تأمل المتأمل بالنظر العميق والفكر الدقيق، لعلم أن لكل علم خاصية تتحصل بمزاولته للنفس الإنسانية كيفية من الكيفيات الحسنة أو السيئة. وهذا علم تعطي مزاولته صاحب هذا العلم معنى الصحابية، لأنها في الحقيقة هي الاطلاع على جزئيات أحواله صلى الله عليه وسلم ، ومشاهدة أوضاعه في العبادات والعادات كلها، وعند بعد الزمان يتمكن هذا المعنى بمزاولته في مدركة المزاول،ويرتسم في خياله بحيث يصير في حكم المشاهدة والعيان، وإليه أشار القائل بقوله:

 

أهل الحديث همُ أهل النبي وإن                    لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا

 

ويروى عن بعض العلماء أنه قال: أشد البواعث وأقوى الدواعي لي على تحصيل علم الحديث  لفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالحاصل أن أهل الحديث كثر الله تعالى سوادهم ورفع عمادهم، لهم نسبة خاصة ومعرفة مخصوصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لا يشاركهم فيها أحد من العالمين، فضلا عن الناس أجمعين، لأنهم الذين لا يزال يجري ذكر صفاته العليا، وأحواله الكريمة، وشمائله الشريفة على لسانهم، ولم يبرح تمثال جماله الكريم، وخيال وجهه الوسيم، ونور حديثه المستبين يتردد في حلق وسط جنانهم ، فعلاقة باطنهم بباطنه العلي متصلة ، ونسبة ظاهرهم بظاهره النقي مسلسلة، وقال الله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) [ الإسراء /71] قال بعض السلف: (هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث، لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم)(2).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال،ويمتازون عنهم بما ليس عندهم، فإن المنازع لهم لابد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقاً أخرى مثل: المعقول والقياس، والرأي والكلام، والنظر والاستدلال، والمحاجة والمجادلة، والمكاشفة والمخاطبة ، والوجد والذوق ونحو ذلك.

وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتها وخلاصتها، فهم أكمل الناس عقلاً، وأعدلهم قياساً، وأصوبهم رأيا، وأسدهم كلاماً، وأصحهم نظراً، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهم فراسة، وأصدقهم إلهاماً، وأحدهم بصراً ومكاشفة، وأصوبهم سمعاً ومخاطبة، وأعظمهم وأحسنهم وجداً وذوقاً.

وهذا هو للمسلمين دون سائر الأمم ، ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل، فهم قد شاركوا غيرهم وزادوا عليهم)(3).

هم أمة واحدة، ونسيج واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، مهما نأت بهم البلاد، وتباعدت الأقطار ، يجرون على طريقة واحدة لا يحيدون ولا يميلون ، حتى قال أبو المظفر: لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم نقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا ؟(4).

أين من هذا – أهل الأهواء والبدع ومن جعلوا الدين غرضا للخصومات والفتن؟ إنك لا تكاد تظفر باثنين منهم على طريقة واحدة، هم أبدا في تنازع وتباغض، يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا.

أو ما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر البغداديون منهم البصريين، والبصريون منهم البغداديين، ويكفر أصحاب أبي على الجبائي(5) ابنه أبا هاشم(6) ، وأصحاب أبي هاشم يكفرون أباه أبا علي ، وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم ؟(7).

فتأمل هذا وتدبر كيف أن الله صان أهل الحديث مما وقع فيه غيرهم، وبهذا يظهر فضلهم وشرفهم، وما هم عليه من حق لا يختلفون فيه، لذا نرى غيرهم يفر إليهم، ولا يفرون هم إليه ، بل يوصي غيرهم خاصته بما عليه الأثر أهل لأنه الحق. ولم لا يرجع الناس إليهم وهم الممكن لهم ، بقبول الأخبار منهم ؟.

وحسبك أن إمام الحرمين وهو من هو(8)؟ يقول: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بالكلام)(9).

ويقول: (اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة)(10).

وأخرج الخطيب عن أحمد بن سنان (11)قال: (كان الوليد الكرابيسي – أحد أئمة الكلام – خالي ، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحداً أعلم بالكلام مني ؟ قالوا: لا ، قال: فتتهموني؟ قالوا: لا ، قال: فإني أوصيكم، أتقبلون ؟ قالوا: نعم. قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم) (12).

ولعلنا بعد هذا نعلم أن شرف أصحاب الحديث مرده الأمور الآتيات:

1-  اعتبار الحديث مصدراً شرعياً، ومن ثم ارتباط أصحاب الحديث بالأحكام الشرعية، وهذه الأصل فيها الصحة،ولا يتأتى ذلك إلا من قبل جهابذة هذا العلم الشريف.

2-  معرفة ناسخ الحديث من منسوخه وهذه الأصل فيها أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ، أي أن يكون الدليل الدال على ارتفاع الحكم الشرعي متراخيا عن الخطاب المنسوخ حكمه، وإذ لم يع المحدث أي الخبرين متقدم عن الآخر فمن غيره يجرؤ على ذلك.

3-  اكتساب أهل الحديث معنى (الصحابية) لأنها في الحقيقة الإطلاع على جزئيات أحواله صلى الله عليه وسلم ومشاهدة أوضاعه في العبادات والعادات كلها، وقد أشار إلى ذلك القائل:

أهل الحديث همُ أهل النبي وإن                                لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا

4-  ولعل أصحاب الحديث هم أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم إن شاء الله لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم على صلاة) ، قال ابن حبان في صححيه: في هذا الحديث بيان صحيح على أن أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في القيامة أصحاب الحديث، إذ ليس في هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم.

5-  وكون أصحاب الحديث أول سلسلة آخرها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فذلك غاية الشرف ومنتهاه ، فأئمة الحديث جعل الله غذاءهم ولذتهم قراءة الحديث وكتابته، ودراسته وروايته ، ورزقهم حفظا يبهر العقول، ويكاد ألا يصدقه من يسمع ما حكي عنهم في ذلك من المنقول. حفظ الله تعالى بهم السنة، وبهم يتم الله على عباده كل منة، وفي مثلهم يقال:

                                        إن علم الحديث علم رجال           تركوا  الابتداع   للاتبـاع

                                        فإذا جن الليل كتبــوه وإذا أصبحوا غدوا للسماع(13)

ولعل بعد هذا الكلام يتهيأ القارئ-كما قلنا سابقا –لما سيهوله فيما بعد من جهد مضن قد بلغ بأصحابه مبلغاً بوأهم الصدارة فبزوا أقرانهم من أرباب العلوم الأخرى شرفا وسموا.

 


 

(1)        الكفاية للخطيب البغدادي (1/ 51-52).

(2)        الحطة ص 36-37 ، مقدمة تحفة الأحوذي ص 11-12.

(3)        نقض المنطق ص 827.

(4)        صون المنطق ص 167.

(5)       أبو علي الجبائي: بضم الجيم وتشديد الياء،قرية من قرى البصرة. ينسب إليها محمد بن عبدالوهاب صاحب مقالات المعتزلة (235-303هـ). اللباب 1/255.

(6)        أبو هاشم: عبد السلام بن محمد بن عبدالوهاب، شيخ المعتزلة وابن شيخهم (277-321هـ). تاريخ بغداد (11/55).

(7)       صون المنطق ص 167. وانظر: الاستقامة لابن تيمية ص 49 وما بعدها ترى كثيرا من هجوم علماء الكلام على الفقه والفقهاء.

(8)       إمام الحرمين: عبدالملك بن عبدالله بن يوسف بن عبدالله بن يوسف (419-478هـ) له ترجمة في: سير أعلام النبلاء (18-468).

(9)       صون المنطق ص 183.

(10)        سير أعلام النبلاء (18-474).

(11)         أحمد بن سنان بن أسد بن حبان القطان (ت 256هـ) كان إماما بارعا صنف المسند، وكان يقول: (ليس في الدنيا مبتدع إلا ويبغض أصحاب الحديث، وإذا ابتدع الرجل بدعة نزعت حلاوة الحديث من قلبه) له ترجمة في: السير (2/244) ، التهذيب (1/34).

(12)         شرف أصحاب الحديث ص 56، وانظر: اختلافات المحدثين والفقهاء في الحكم على الحديث ص 15-17.

(13)         إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد للصنعاني. ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/9.وانظر: ضوابط الرواية عند المحدثين ص 21-23.



بحث عن بحث