دروس من فتح مكة (3-3)

الوقفة الرابعة:

وهي صورة عظيمة رسمها لنا رسول الله ﷺ في موقف عملي نبيل، لا يستطيعه إلا العظماء من البشر، خطه لنا صلوات الله وسلامه عليه لنقتدي به ونتأسى بخطواته، وهو من شيم الأفذاذ والنبلاء، وأصحاب القلوب الكبيرة المرتبطة بخالق الأرض والسموات.

أعلن ﷺ عفوه وصفحه وتسامحه عن بني قومه الذين آذوه وطردوه، وشردوه، ومكروا به، وخذلوه، واستهزؤوا به، جاء إليهم فاتحًا في موقف المعتز المنتصر، في موقف من بيده الأمر والجزاء لما عملوه معه ولو بقطع رقابهم، في هذا الموقف يسائلهم: «يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟» لا شك أنه يتبادر إلى الذهن أن الجزاء من جنس العمل، وهم يعلمون ماذا عملوا به من الإيذاء والمكر والخديعة، فيتوسّلون إليه بقولهم: «أخي كريم وابن أخ كريم» فماذا ينتظر من الكريم؟ أينتظر منه الانتقام وأن يسيل الدماء؟ أم النهب والسلب؟ أم الشتم والسباب؟ أم هتك الأعراض وتشريد الأطفال وترميل النساء؟

بل هو ﷺ كما ذكروا: «أخ كريم وابن أخ كريم«.

عرفوه كذلك رغم ما عملوا معه، عرفوه رؤوفًا رحيمًا، عرفوه أمينًا عظيمًا، كريمًا خلوقًا.

يجيبهم بكل اطمئنان: «أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء«.

أما في عالم اليوم: فتقف الشحناء والبغضاء، وعلى مستويات متنوعة: بين الأَفراد بعضهم مع بعض، والأُسر فيما بينها، والمجتمعات المسلمة، لتؤثر على قلوب المسلمين فتكدر صفوها، فهل لنا أن نتأسى بهذا الخلق الكريم من رسول الله ﷺ فنصفي قلوبنا من أحقادها وأضغانها، وأن نعلن الصفح والعفو عن كل من أساء إلينا، ونحل المودة والمحبة بدل البغضاء والعداوة؟ هل نتذكر قوله تعالى سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(1)؟ وهل نستجيب لتوجيه رسولنا عليه الصلاة والسلام: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله، التقوى ها هنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه«(2).

أيها المسلمون الكرام:

ونحن نتذكر هذه الصور العظيمة والتعاليم السامية فإنما نتذكرها لا للتمجيد والذكرى فحسب، بل لنقلها إلى واقعنا العملي، فنصفي القلوب من شوائبها، ونزرع المحبة والمودة والصفاء والثناء، وبخاصة أننا في هذه الأيام والليالي المباركة الداعية لمثل هذه الفضائل، أسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا من الشحناء والبغضاء، وأعمالنا من النفاق والرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيينها من الخيانة، وأن يرزقنا العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب وهو المستعان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) [الأعراف: 199]

(2) رواه البخاري شطره الأول (9/198)، برقم(5143) في كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه، ومسلم بكامله (4/1986)، برقم(2564) في البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره.



بحث عن بحث