زيادة العمر بالبر والصلة (3)

أدلة أصحاب المذهب السابق:

لأصحاب هذا المذهب عدة أدلة تؤيد ما ذهبوا إليه من أنَّ الزيادة الواردة في الأحاديث حقيقية وليست معنوية، وأنَّ إثبات الزيادة لا ينافي الآيات التي فيها أنَّ الأجل لا يتقدم ولا يتأخر، ومن هذه الأدلة:

الأول: قوله تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد: 39].

ووجه الدلالة: أنَّ المحو والإثبات - المذكورين في الآية - هما بالنسبة لما في علم المَلَك، وأما الذي في أم الكتاب - وهو الذي في علم الله تعالى - فلا محو فيه ألبتة، وهو الذي يقال له القضاء المبرم، ويقال للأول القضاء المعلق(1)

والأحاديث الواردة في أنَّ صلة الرحم تزيد في العمر محمولة على المعنى الأول؛ فإنَّ الله يمحو ما يشاء فيه ويثبت، والآيات التي تفيد أنَّ الأجل لا يتقدم ولا يتأخر محمولة على المعنى الثاني، فلا محو فيه ولا إثبات.

قالوا: ومما يؤكد هذا المعنى قوله في الآية التي قبلها: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) ثم قال: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) أي من ذلك الكتاب (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) أي أصله وهو اللوح المحفوظ فلا محو فيه ولا إثبات(2)

قال الشوكاني: "المحو والإثبات في الآية عامان يتناولان العمر والرزق، أو السعادة والشقاوة ... ، ولم يأت القائلون بمنع زيادة العمر ونقصانه بما يخصص هذا العموم"(3) اهـ

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: المحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالماً به، فلا محو فيه ولا إثبات. قال: ونظير هذا ما في الترمذي وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ آدم لما طلب من الله أن يُريه صورة الأنبياء من ذريته، فأراه إياهم، فرأى فيهم رجلاً له بصيص (4) فقال: من هذا يا رب؟ فقال: ابنك داود. قال: فكم عمره؟ قال: أربعون سنة. قال: وكم عمري؟ قال: ألف سنة. قال: فقد وهبت له من عمري ستين سنة. فكتب عليه كتاب وشهدت عليه الملائكة، فلما حضرته الوفاة قال: قد بقي من عمري ستون سنة. قالوا: وهبتها لابنك داود. فأنكر ذلك، فأخرجوا الكتاب. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته"(5)

وروي: "أنه كمل لآدم عمره ولداود عمره"(6)

فهذا داود كان عمره المكتوب أربعين سنة ثم جعله مائة، وهذا معنى ما روي عن عمر أنه قال: "اللهم إن كنت كتبتني شقياً فامحني واكتبني سعيداً؛ فإنك

تمحو ما تشاء وتثبت(7) اهـ (8)

الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) [فاطر: 11]، فالزيادة والنقصان المشار إليهما في الآية المراد بهما ما يُكتب في صحف الملائكة، ومعنى الآية: أنه لا يطول عمر إنسان ولا يُنقص منه إلا وهو في كتاب، أي صحف الملائكة(9)

الدليل الثالث: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام: 2]، فالمراد بالأجل الأول هو ما في صحف الملائكة، وما عند مَلَك الموت وأعوانه، وأما الأجل الثاني فالمراد به ما ذُكِرَ في قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) وقوله: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: 34](10) .

الدليل الرابع: ما رُوي عن عدد من الصحابة أنهم كانوا يقولون في أدعيتهم: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة؛ فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة.

رُوي ذلك عن عمر بن الخطاب ، وابن مسعود - رضي الله عنهم -، فدل على أنَّ مذهب الصحابة جواز المحو والإثبات في الشقاء والسعادة، فكذلك زيادة العمر ونقصانه(11) .


(1) لله تعالى في خلقه قضاءان: مبرماً، ومعلقاً بفعل؛ فالمبرم: هو عبارة عما يقدره تعالى في الأزل من غير أن يعلقه على فعل، وهو في الوقوع نافذ لا محالة، ولا يمكن أن يتغير بحال، ولا يتوقف وقوعه على المقضي عليه، ولا المقضي له؛ لأنه من علمه سبحانه بما كان وما يكون، وخلاف معلومه سبحانه مستحيل قطعاً، وهذا النوع لا يتطرق إليه المحو والإثبات، قال تعالى: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [الرعد: 41]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: "إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ". [أخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الفتن وأشراط الساعة، حديث (2889)]. وأما القضاء المعلق: فهو أن يعلق الله تعالى قضاءه على شيء؛ فإن فعل العبد ذلك الشيء كان له كذا وكذا، وإن لم يفعله لم يكن شيء، وهذا النوع يتطرق إليه المحو والإثبات، كما قال تعالى: (? ? ? ? ?) [الرعد: 39]. انظر: مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري (10/ 430)، وتحفة الأحوذي، للمباركفوري (6/ 333).

(2) انظر: فتح الباري، لابن حجر (10/ 430)، وصحيح مسلم بشرح النووي (16/ 173)، وشرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي (1/ 151 - 152)، وشرح سنن ابن ماجة، للسيوطي (1/ 291).

(3) تنبيه الأفاضل، ص (20)

(4) البصيص: البَرِيق. يقال: وَبَص الشيء يَبِصُ وَبِيصاً، وبَصَّ بَصِيصاَ، بمعنى: برق. انظر: مشارق الأنوار، للقاضي عياض (2/ 277)، والنهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير (5/ 128).

(5) أخرجه من حديث أبي هريرة: الترمذي في سننه، في كتاب التفسير، حديث (3076)، وحديث(3368)، وابن حبان في صحيحه (14/ 41)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 147)، وأبو يعلى في مسنده (11/ 263)، والحاكم في المستدرك (1/ 132)، وقال: "صحيح على شرط مسلم"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2/ 924 - 925)، حديث (5208)، وحديث (5209).

(6) هذه الرواية أخرجها الإمام أحمد في مسنده (1/ 298)، حديث (2713)، من حديث ابن عباس، وفي سند الحديث: "علي بن زيد بن جدعان"، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 806): "رواه أحمد والطبراني، وفيه علي بن زيد ضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات".

(7) أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/ 401)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة

(4/ 663 - 664)، أثر (1206) و (1207)، كلاهما من طريق عصمة أبي حكيمة، عن أبي عثمان النهدي، عن عمر بن الخطاب، به. وأبو حكيمة: ذكره ابن حبان في الثقات (7/ 298)، وقال أبو حاتم الرازي في "الجرح والتعديل" (7/ 20): "محله الصدق"، وبقية رجاله ثقات، وعليه فالإسناد حسن

(8) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (14/ 491 - 492)، بتصرف

(9) انظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي (1/ 151)، وتنبيه الأفاضل، للشوكاني،

ص (20)، وتحفة الأحوذي، للمباركفوري (6/ 290)

(10) انظر: تحفة الأحوذي، للمباركفوري (6/ 290)

(11) انظر: تنبيه الأفاضل، للشوكاني ص (20)



بحث عن بحث