زيادة العمر بالبر والصلة (2)

القول الثاني في المسلك الأول :    

القول الثاني: أنَّ معنى الأحاديث: أنَّ الله تعالى جعل صلة الرحم سبباً لطول العمر، كسائر الأعمال التي أمر الله بها شرعاً، ورتب عليها جزاء قدرياً، فمن عَلِمَ أنه يصل رحمه جعل أجله إلى كذا، ومن عَلِمَ أنه يقطع رحمه جعل أجله ينتهي إلى كذا، والكل قد فُرِغَ منه في الأزل، وجف به القلم.

وهذا قول: الطحاوي، والقاضي عياض، وابن حزم، والزمخشري، وابن عطية، والقرافي، وابن أبي العز الحنفي، والمناوي، وشمس الحق آبادي، والشوكاني، والآلوسي، وابن عثيمين(1)

قال ابن حزم: "وأما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من سره أنْ يُنسأ في أجله فليصل رحمه" فصحيح موافق للقرآن، ولما توجبه المشاهدة، وإنما معناه: أنَّ الله عز وجل لم يزل يعلم أنَّ زيداً سيصل رحمه، وأنَّ ذلك سببٌ إلى أنْ يبلغ من العمر كذا وكذا، وهكذا كل أجل في الدنيا؛ لأن مَنْ عَلِمَ الله تعالى أنه سيُعمَّر كذا وكذا من الدهر؛ فإنَّ الله تعالى قد عَلِمَ وقدَّر أنه سيتغذى بالطعام والشراب، ويتنفس بالهواء ويسلم من الآفات القاتلة تلك المدة التي لا بد من استيفائها، والمسبب والسبب كل ذلك قد سبق في علم الله عز وجل كما هو لا يُبَدَّل، قال تعالى: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق: 29]

ولو كان على غير هذا لوجب البداء (2)ضرورة، ولكان غير عليم بما يكون، متشككاً فيه أيكون أم لا يكون؟ أو جاهلاً به جملة، وهذه صفة المخلوقين لا صفة الخالق، وهذا كفر ممن قال به".(3)اهـ

وقال القرافي: "الحق أنَّ الله تعالى قدَّر له ستين سنة مرتبة على الأسباب العادية، من الغذاء والتنفس في الهواء، ورتب له عشرين سنة أخرى مرتبة على هذه الأسباب وصلة الرحم، وإذا جعلها الله تعالى سبباً أمكن أن يُقال: إنها تزيد في العمر حقيقة، كما نقول الإيمان يُدخل الجنة، والكفر يُدخل النار، بالوضع الشرعي لا بالاقتضاء العقلي، ومتى علم المكلف أنَّ الله تعالى نصب صلة الرحم سبباً لزيادة النساء في العمر بادر إلى ذلك كما يُبادر لاستعمال الغذاء وتناول الدواء والإيمان رغبة في الجنان، ويَفِرُّ من الكفر رهبة من النيران، وبقي الحديث على ظاهره من غير تأويل يُخِلُّ بالحديث"(4).اهـ

القول الثالث: أنَّ معنى الحديث: أنَّ الله تعالى يكتب أجل عبده عنده مائة سنة، ويجعل بُنْيَتَهُ وتركيبه وهيئته لتعمير ثمانين سنة؛ فإذا وصل رحمه زاد الله تعالى في ذلك التركيب وفي تلك البنية، ووصل ذلك النقص فعاش عشرين أخرى حتى يبلغ المائة، وهي الأجل الذي لا مستأخر عنه ولا متقدم.

ذكر هذا القول: ابن قتيبة، وابن فورك، وابن الجوزي . (5)

القول الرابع: أنَّ معنى الحديث: أنَّ من وصل رحمه زاد الله في عمره في الدنيا من أجله في البرزخ، ومن قطع رحمه نقّص الله من عمره في الدنيا، وزاده في أجل البرزخ.

روي هذا القول عن ابن عباس - رضي الله عنه -.

قال أبو عبد الله القرطبي: " قيل لابن عباس لما روى الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه" كيف يزاد في العمر والأجل؟ فقال: قال الله عز وجل: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام: 2]فالأجل الأول: أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والأجل الثاني، يعني المسمى عنده: من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البرزخ، لا يعلمه إلا الله؛ فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البرزخ ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه نقصه الله من أجل عمره في الدنيا ما شاء فيزيده في أجل البرزخ، فإذا تحتم الأجل في علمه السابق امتنع الزيادة والنقصان؛ لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام: 2].

قال القرطبي: فتوافق الخبر والآية، وهذه زيادة في نفس العمر وذات الأجل على ظاهر اللفظ، في اختيار حبر الأمة، والله أعلم" (6) اهـ

ونقل الحافظ ابن حجر نحو هذا القول عن الحكيم الترمذي،حيث قال: "المراد بذلك قلة البقاء في البرزخ".(7)

هذا وسنعرض في الحلقات القادمة لأدلة هذا المذهب ، وإيراد المذهب الثاني وأدلته ، ثم الترجيح في هذه القضية ،وعلى الله قصد السبيل، ومنه سبحانه العون والتوفيق.


 (1) انظر على الترتيب: مشكل الآثار، للطحاوي (4/ 78)، وإكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (8/ 21)، والفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (2/ 114 - 115)، والكشاف، للزمخشري (3/ 586)، والمحرر الوجيز، لابن عطية (2/ 396)، وأنوار البروق، للقرافي (1/ 148)، وشرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي (1/ 150)، وفيض القدير، للمناوي (6/ 34)، وعون المعبود، للآبادي (5/ 77)، وتنبيه الأفاضل، ص (29)، وفتح القدير (4/ 486)، كلاهما للشوكاني، وروح المعاني، للآلوسي (4/ 397)، ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (2/ 111).ـ

(2) البداء يُطلق ويراد به في اللغة معنيين: الأول: الظهور بعد الخفاء، والثاني: نشأة رأي آخر لم يكن من قبل. وهذان المعنيان يستلزمان سبق الجهل وحدوث العلم، وكلاهما محالان في حق الله تعالى؛ لأن الله تعالى متصف أزلاً وأبداً بالعلم الواسع المحيط بكل شيء، فهو سبحانه يعلم ما كان، وما يكون، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون. انظر: النسخ في القرآن الكريم، لمصطفى زيد

(1/ 20 - 21).

(3) الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (2/ 114 - 115)

(4) أنوار البروق، للقرافي (1/ 148)

 (5) انظر على الترتيب: تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة (1/ 189)، ومشكل الحديث وبيانه، لابن فورك (1/ 307)، وكشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (3/ 186)

(6)تفسير القرطبي (9/ 216 - 217)، ولم أقف على أثر ابن عباس المذكور

(7) فتح الباري، لابن حجر (4/ 353). وانظر: عمدة القاري، للعيني (11/ 182)



بحث عن بحث