قرائن الترجيح بين الروايات المختلفة (4-4)

 

16) تشابه الاسمين:

ومعنى ذلك أن يختلف على راوٍ، في تسمية شيخٍ، ويكون اسمهما متقارباً، فَيَهِمُ الرَّاوي إلى الأشهر منهما.

ومن أمثلة ذلك قول ابن أبي حاتم : « سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه يزيد بن عطاء عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن نافع وعطاء عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : "صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا خِفت الصبح فأوتر بواحدة" . فقلت : لا نرى أَنَّ هذا خطأ لأنه هذا الحديث رواه جماعة عن عطيَّة ونافعٍ عن ابن عمرَ وليس في شيء من الأخبار ذكر عطاء، ويشبه أن يكون يزيد بن عطاء أراد أن يقول عن عطيَّة، فقال عن عطاء - والله أعلم - » (1) .

وقال أبو حاتم: « فلعله قاله: عن عبد الله بن مسعود، فظنَّ أنه يقول: عن عبد الله بن غافل »(2) .

وقال أبو زرعة : « أما القلب ، فقوله عن أبي بردة ، أراد ابن بريدة »(3) .

وقال الدَّارقطني في حديث : « … وإنَّما الصَّواب : شعبة عن بيان ، فوهم ابن سيف في بيان فجعله سيار … » (4) .

ومن الأوهام في تعيين الرَّاوي بسبب الاتفاق في الاسم ما رواه أبو سلمة التَّبوذكيُّ قال : حدثنا أبان قال حدثنا شدَّاد بن عبد الله بن الهاد … فقال أبو حاتم : «كذا قال أبو سلمة : ابن الهاد ، وهو خطأ ، هو عندي شدَّاد أبو عمَّار »(5) .

 

17) رواية أهل المدينة:

والمراد بذلك أن يخالف أهل المدينة غيرهم في حديث – وإن اختلف مخرجه. فيرجح جانبهم لأنَّ علم الحديث نبع من تلك الأرض وأهلها، فجانبهم عند الاختلاف أقوى.

ومن شواهد ذلك الاختلاف في ذكر عمَّار وبلالٍ في حديثٍ ، فأهل الكوفة ذكروا عماراً مسنداً ، وأهل المدينة ذكروا بلالاً بروايةٍ مرسلةٍ . فرجَّح أبو زرعة بينهم بأمرٍ جديدٍ فقال : « رواه المدنيون على أنه بلال ، وهم أعلم ، وإن كان روايتهم مرسلاً ، فلولا أنهم سمعوه من أَصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقولونه » (6) .

 

18) احتمال التدليس ممن وصف به:

فإذا اختلف على راوٍ - رُمِيَ بالتدليس – بزيادة بينه وبين شيخه ، وكانت القرائن متقاربة ، فإن القول بالزيادة في السند محتمل ، لاحتمال التدليس من ذلك الراوي ، فيكون أسقطه مرة .

قال الدَّارقُطني وسئل عن حديث الخوارج فقال : « وروى هذا الحديث أبو إسحاق السبيعي واختلف عنه .

فرواه إسرائيل عن أبي إسحاق عن سويد بن غفلة عن علي .

ورواه سعاد بن سليمان عن أبي إسحاق عن قيس بن سويد عن علي ووهم .

ورواه يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق فضبطه عن أبي إسحاق فقال عن أبي قيس الأودي عن سويد بن غفلة عن علي . وهو الصواب »(9) .

 

 

19) التصريح بالسماع:

فإذا روى راوٍ بزيادة في السند ، وأسقطها آخر مع التصريح عن الشيخ الأعلى، أو صرح عن شيخ آخر ، كان ذلك قرينة على صحة هذه الرواية – مالم تعارض بأقوى – ، ويقوى ذلك إذا كان المسقط مدلساً قد عنعن .

قال ابن حجر في ذكر خلاف على سالم: « وليس لجرير بن زيد في البخاري سوى هذا الحديث، وقد خالف فيه الزهري، فقال عن سالم عن أبي هريرة والزهري يقول عن سالم عن أبيه. لكن قَوِيَ عند البخاري أنه عن سالم عن أبيه وعن أبي هريرة معاً ، لشدة إتقان الزهري ومعرفته بحديث سالم ، ولقول جرير بن زيد في روايته : كنت مع سالم على باب داره فقال : سمعت أبا هريرة، فإنها قرينة في أنه حفظ ذلك »(8).

وللتَّرجيح قرائن خاصة أخرى يمكن استنباطها من تعليلات الحفَّاظ ، والنظر في سياق كلامهم ، واستخراج أسباب ترجيحهم رواية على أخرى ، مع التَّنبُّه إلى أنَّه قد تقدَّم قرينةٌ على أخرى لأسبابٍ تظهر من كل حديثٍ بعينه .

ومن الأمثلة على اختلاف الحفاظ في الترجيح بسبب الاختلاف في تقديم القرائن قول ابن أبي حاتم : « سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه الثوري عن الزبير ابن عدي عن أبي رزين عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في المعوذتين .

قال أبو زرعة : ورواه عنبسة بن سعيد قاضي الري عن عمرو بن أبي قيس عن الزبير بن عدي عن أبي رزين عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال أبو زرعة : حديث عنبسة وعمرو أشبه عندي إذا اتفق عليه النفسان ، وهما الرواة عن الزبير ، وأخاف أن يكون اشتبه على الثوري عاصم عن زر ، ولعله من الزبير .

قال أبي : حديث الثوري أصح عن أُبيّ ، وهو أحفظهم وأعلى من هؤلاء بدرجات والحديث بأُبي أشبه إذْ كان قد رواه عاصم عن زر عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس لحذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المعوذتين معنى »(9).

فاختلافا في قرينة الترجيح ، فبينما اعتمد أبو زرعة على العدد والاختصاص ، اعتمد أبو حاتم على الحفظ والمتابعة القاصرة .

ومما سبق يتبين إجمالاً إنه ينبغي في الترجيح بين الرواة الثقات عند خفاء القرائن العامة النظرُ في تراجمهم لاستنباط قرائن خاصة دقيقة تساعد على الحكم بدقة ، كما لو كان الراوي معروفاً بقصر الأسانيد، أو وقفها، كما هو مذهب بعض السلف ، وصرَّح به أحمد بن حنبل فقال : « وقد كان مذهبهم أن يقصروا بالحديث ويوقفوه »(10) .

وقال الدَّارقُطني إنَّ ابن سيرين وابن عون ومالك ربما أوقفوا المرفوع أو أرسلوا الموصول(11).

 

ويمكن للناظر في هذه القرائن أن يقسمها إلى ما يلي :

 

‌أ/ باعتبار القرب والبعد، قسمان:

1- قرائن داخلية: تعرف من الرِّوايات التي تذكر مع العلة، فيُرجَّح بينها من خلال ذلك دون حاجة - أحياناً - إلى تتبع الطُّرق وجمعها ، ومن أمثلتها قرينة البلد والاختصاص.

2- قرائن خارجية: قد يتعذر الحكم على الحديث بدونها ، ومن أمثلتها قرينة العدد والاختلاف على الرَّاوي ونحو ذلك .

 

‌ب/كما أنها باعتبار الظهور والخفاء قسمان آخران:

1- قرائن ظاهرة: كالقرائن العامة .

2- قرائن خفية: كالرواية عن أهل بلده .

 

‌ج/ وباعتبار التنصيص، قسمان:

 

1- قرائن نص العلماء على عليها ، كقولهم : « فلان أحفظ » .

2- قرائن مسكوت عنها ، تعلم بالقياس والاستنباط .

 

والأمثلة على القرائن السابقة من كلام أهل العلم على الأحاديث كثيرة جداً ،ولعل فيما ذُكر كفاية في الدلالة على أصل كل مسألة ، والله أعلم .

 

وصلى الله على نبيه محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .

 


 


(1) - العلل (1/98) .

(2) - العلل لابن أَبي حاتم (2/231) .

(3) - العلل (2/24) .

(4) - سؤالات حمزة السهمي للدارقطني (34) .

(5) - العلل لابن أَبي حاتم (1/357) .

(6) - العلل لابن أَبي حاتم (1/100) .

(7) - العلل (3/229) .

(8) - الفتح (10/322) ، حديث (5790) .

(9) - العلل (2/54-55) .

(10) - رواية المروذي (78) وشرح العلل (2/689) .

(11) - علل الدَّارقُطني (10/14و23و6/63) .

 

 

 



بحث عن بحث