الحديث العاشر، والحديث الحادي عشر، والحديث الثاني عشر

ذكر دخول الخلاء

 

 

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)(1)، وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن شرّقوا أو غرّبوا)(2).

وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما- أنه قال: (رَقِيت يوماً على بيت حفصة، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة)(3).

 

*        *        *

 

هذه الأحاديث الثلاثة تدور حول موضوع واحد، وهو آداب دخول الخلاء والاستطابة، ففيها إرشاد وتوجيه من المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، نوجز فوائدها في الوقفات الآتية:

الوقفة الأولى: قوله في الحديث الأول: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل) كان هنا تدل على الملازمة والمداومة. (وإذا دخل)، معناه إذا أراد الدخول، وهذا ما جاء صريحاً في رواية البخاري المعلقة: كان إذا أراد أن يدخل. وهو مثل قوله - سبحانه وتعالى-: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)(4)، أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله، و (الخلاء) بفتح الخاء هو موضع قضاء الحاجة، سمي بذلك لخلائه في غير أوقات قضاء الحاجة، فهو يصدق على أي مكان أُعِدَّ لقضاء الحاجة، ولو سمي بغير هذا الاسم كدورة المياه، والحمام ونحو ذلك.

وقوله: (أعوذ بالله) الاستعاذة: الاستجارة والاعتصام، فمعنى أعوذ بالله أستجير بالله وأعتصم.

وقوله: (من الخبائث)، بضم الخاء والباء، وقيل بضم الخاء وسكون الباء، جمع خبيث، وهو الذكر من الشياطين، وقيل: الشر، وقيل: الكفر، وقيل: الشيطان، أما الخبائث فهي جمع خبيثة، وهي إناث الشياطين، وقيل: المعاصي، وقيل: البول والغائط.

الوقفة الثانية: يدل هذا الحديث على أهمية الذكر في كل مكان، ولذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا الذكر قبيل دخول الخلاء، والجلوس لقضاء الحاجة؛ لأن أمكنة قضاء الحاجة من مساكن الجن والشياطين، فيستعيذ الداخل بالله - سبحانه وتعالى- من هؤلاء الشياطين، ذكراناً وإناثاً، ويعتصم بالله - سبحانه وتعالى-.

الوقفة الثالثة: مما ذكره أهل العلم أيضاً أنه ينبغي لمن قضى حاجته وخرج من الخلاء أن يقول: غفرانك؛ لأنه  قد ورد ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم(5).

ومعناه: سألتك غفرانك على حاجة شغلتني عن الذكر، فختم بالذكر كما ابتدأ به.

الوقفة الرابعة: قوله في الحديث الثاني: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط، ولا بول، ولا تستدبروا، ولكن شرقوا أو غربوا)(6).

فقوله إذا أتيتم الغائط: إذا جلستم لقضاء الحاجة فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها،  ولكن شرقوا أو غربوا، وهذا بالنسبة لأهل المدينة؛ لأن القبلة تكون جنوبها، فمن كان في غير المدينة فيراعي الانحراف في القبلة، وهذا النهي لاحترام الكعبة وتعظيمها. وفي الحديث الثالث يقول عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما-: رقيت على بيت حفصة، فرأيت النبي - صلى الله عليه  وسلم- يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة(7).

فهل هناك تعارض بين الحديثين؟ ذكر أهل العلم أنه لا تعارض بينهما، فالتحريم باق على أصله، لكنه خاص في الخلاء، أما في البنيان فهو مباح، جمعاً بين الأدلة، وهذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وهناك من أهل العلم من ذهب إلى التحريم مطلقاً، سواء كان في الخلاء، أو في البنيان؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وهذا القول هو اختيار ابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم - رحمهم الله تعالى-، ومن العلماء من ذهب إلى الجواز مطلقاً، والحق - والله أعلم- ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، من أن التحريم في الفضاء دون البنيان، لكن ينبغي عدم التساهل في ذلك، حتى في البنيان، فيراعي من يريد بناء منزل له أن لا يوجه المراحيض إلى القبلة، بل يحرفها عنها إلى جهة أخرى، حتى يخرج من هذا النهي. والله أعلم.

الوقفة الخامسة: في الحديث الأول إشارة مهمة إلى ضرورة التحصين من الشياطين، وذلك بالمحافظة على الأذكار، سواء كانت الأذكار المطلقة، كالتسبيح، والتهليل، والتكبير، والتحميد، أو الأذكار المقيدة بزمان، كأذكار الصباح والمساء، والأذكار المقيدة بمكان، كهذا الذكر المقيد بدخول دورة المياه، وأذكار دخول المنزل، والخروج منه، ونحوها، أو المقيدة بحال، كحال الإنسان في الطواف، أو الصيام، ونحو ذلك.

ومن الخير تعليم الأبناء، والبنات، والطلاب، والطالبات، هذه الأذكار، وتحفيظهم إياها، لكي يتحصنوا من أشد أعدائهم، وهم الشياطين، و قانا الله جميعاً شرورهم.


 


(1)     رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب ما يقول عند الخلاء 1/242 رقم 142. ومسلم في كتاب الحيض، باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء 1/283 رقم 375.

(2)     رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب لا تستقبل القبلة ببول أو غائط إلا عند البناء، الفتح 1/245 رقم 144، ومسلم في كتاب الطهارة باب الاستطابة 1/224 رقم 264.

(3)     رواه البخاري في كتاب الوضوء باب التبرز في البيوت 1/75 رقم 148.

(4)     سورة النحل، الآية": 98.

(5)     رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب ما يقول الرجل إذا خرج في الخلاء 1/8 رقم 30 ، والترمذي في أبواب الطهارة باب ما يقول إذا خرج في الخلاء 1/12 رقم 7.

(6)     سبق تخريجه.

(7)     سبق تخريجه.

 



بحث عن بحث