الحديث السادس والسابع

صفة الوضوء

 

عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه رأى عثمان - رضي الله عنه- دعا بوضوء، ثم تمضمض، واستنشق، واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين، ثم مسح برأسه ، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً، ثم قال رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم- توضأ نحو وضوئي، وقال: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله ما تقدم من ذنبه)(1).

ويشبه هذا الحديث ما أخرجه الشيخان عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال: (شهدت عمرو بن أبي الحسن سأل عبد الله بن زيد - رضي الله عنه- عن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم- فدعا بتور من ماء فتوضأ لهم وضوء النبي- صلى الله عليه وسلم- فأكفأ على يديه من التور، فغسل يديه ثلاثاً، ثم أدخل يده في التور، فمضمض، واستنشق، واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات، ثم أدخل يده في التور فغسل وجهه ثلاثاً، ثم أدخل يده فغسلهما مرتين إلى المرفقين ثم أدخل يديه فمسح بهما رأسه، فأقبل بهما، وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه). وفي رواية: (بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه)(2).

هذان الحديثان العظيمان فيهما بيان عملي لصفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم- الصفة الكاملة، فنقف معهما الوقفات الآتية:

الوقفة الأولى: قول الرواي: (أن عثمان دعا بوضوء).

الوَضوء: بفتح الواو: الماء الذي يتوضأ به – وهو المقصود هنا – أما بضم الواو (الوُضوء) فهو فعل الوضوء، وقوله في الرواية الأخرى (فدعا بتور) التور هو: الإناء الصغير.

الوقفة الثانية: قوله: (فأفرغ عليه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات)، وقوله في الرواية الأخرى (على يديه من التور فغسل يديه ثلاثاً) هاتان الجملتان تفيدان أن أول أعمال الوضوء غسل الكفين، وغسلهما سنة مؤكدة في الوضوء، إلا للقائم من نوم الليل، ولا خلاف في هذا بين أهل العلم، أما القائم من نوم الليل فيجب عليه غسل الكفين في أصح قولي العلماء، لما رواه البخاري ومسلم أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلهما ثلاثاً)(3).

الوقفة الثالثة: قوله: (ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض، واستنشق، واستنثر)، وقوله في الرواية الأخرى: (ثم أدخل يده في التور، فمضمض، واستنشق، واستنثر ثلاثاً بثلاث غُرْفات).

المضمضة: أن يجعل الماء في فيه، ثم يديره، ثم يمجه، وهذا كمال المضمضة، وأقلها أن يجعل الماء في فيه ولا يمجه.

أما الاستنشاق: فهو اجتذاب الماء بالنفس إلى باطن الأنف حتى يصل إلى الخياشيم، وهذا كمال الاستنشاق، وهو ما يسمى بالمبالغة، وأقلها اجتذاب الماء بالنفس إلى الأنف، دون الوصول إلى الخياشيم.

والاستنثار: أن يخرج الماء من أنفه بعد الاستنشاق.

وقد سبق أن الاستنشاق والاستنثار واجبان في الوضوء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم-: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر)(4). وفي رواية لمسلم: (فليستنشق بمنخريه الماء)، ولقوله  - صلى الله عليه وسلم-: (إذا توضأ فأنثر)(5)، والأحاديث في هذا متعددة، لا يتسع المقام لحصرها.

أما حكم المضمضة: فهي واجبة في الوضوء والغسل معاً، وهو الصحيح من أقوال أهل العلم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن – (إذا توضأت فمضمض)(6)، وصححه ابن حجر - رحمه الله-؛ ولأن الفم عضو في الوجه، فوجبت المضمضة؛ لأن الفم منه. كما أن الجميع من وصف وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم- ذكر المضمضة فدل كل ذلك على الوجوب، وهناك رأي لبعض أهل العلم أن  المضمضة سنة في الوضوء والغسل، بدليل أنه لم تذكر في آية الوضوء، لكن الصحيح هو الوجوب، أما أنها لم تذكر في آية الوضوء؛ فلأنها من الوجه، والوجه قد ذكر بقوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم).

الوقفة الرابعة: ذكر بعض أهل العلم الإجماع على أن المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة مؤكدة لغير الصائم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم-: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)(7). والصائم لو بالغ في المضمضة أو الاستنشاق لكان عرضة لأن يصل الماء إلى حلقه، وبالتالي يتعرض للفِطر.

الوقفة الخامسة: ذكر في الرواية الأخرى صفة المضمضة والاستنشاق، قال: (ثم أدخل يده في التور، فمضمض، واستنشق، واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات) وفي رواية: (فتمضمض، واستنشق من كف واحدة، فعل ذلك ثلاثاً). فتفيد هذه الروايات أن المستحب في المضمضة والاستنشاق أن يتمضمض بيمينه، ويستنشق بشماله، وأن تكون المضمضة والاستنشاق من كف واحدة بغرفة واحدة. هذا هو المستحب، وإن خالف ذلك بأن جعل للمضمضة غرفة وللاستنشاق غرفة فلا بأس - إن شاء الله-.

وكمال الاستحباب أن يفعل ذلك ثلاث مرات، كما هو صريح في الرواية الأخرى، لكن هل يجب الترتيب بينهما وبين الوجه؟ الصحيح - إن شاء الله- أنه لا يجب، وإنما يستحب أن يبدأ بهما قبل الوجه؛ لأن كل من وصف وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم- بدأ بهما.

الوقفة السادسة: قوله: (ثم غسل وجهه ثلاثاً).

حد الوجه: من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن جميعاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، والاعتبار بالمنابت المعتادة، لا بمن تصلع الشعر عن ناصيته، ولا بمن نزل على جبهته.

ثم لا خلاف بين أهل العلم على أن غسل الوجه واجب من واجبات الوضوء؛ لقوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم). ولكن هناك تفريعات حول غسل الوجه، نوضحها في الآتي:

يدخل الوجه ما بين الأذن وشعر العارض، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، إلا ما أثر عن مالك - رحمه الله- بأن قال: ليس من الوجه؛ لأنه لا يواجه به، ولكن الصحيح خلافه، كما نبه إلى ذلك جمهور العلماء.

مما يدخل في الوجه جميع الشعور التي على الوجه، من شعر الذقن، وشعر العارضين، والحاجبين، وأهداب العينين، والشارب، والعنفقة.

أما غسل العينين فليس بواجب، ولكن الواجب هو ما بين العينين والأنف، وهو ما يسمى بالمآقين؛ لأنه من الوجه.

وصفة غسل الوجه المستحبة: أن يأخذ الماء بيديه جميعاً؛ لأنه أمكن وأسبغ، ويبدأ بأعلى وجهه ثم يحدر؛ لأنه هكذا كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وإن خالف هذه الصفة، لكنه توصل إلى غسل وجهه فلا بأس.

ومن المستحب أن يغسل وجهه ثلاثاً، كما نص عليه في الحديث.

وأما كيفية غسل الشعور فهي لا تخلو إما أن تصف البشرة أو لا؟ فإن كانت تصف البشرة فتغسل مع الوجه، وإن لم تصفها فيجزئ غسل ظاهرها، والحمد لله على التيسير.

الوقفة السابعة: قوله: (ويديه إلى المرفقين ثلاثاً).

المرفق: بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الفاء مجتمع العظمين المتداخلين، وهما طرف عظم العضد، وطرف عظم الذراع. و(إلى) في قوله: (إلى المرفقين) لها معنيان: الأول أنها بمعنى: مع، فكأنه قال: (مع المرفقين)، والمعنى الثاني: تكون للغاية، فإذا كانت للغاية فهل يدخل ما بعد إلى فيما قبلها، مثل بعتك هذه الأشجار من هذه إلى هذه؟ أما إذا لم يكن من جنسه فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها، كما في قوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل). فالليل هنا لا يدخل في الصيام؛ لأن الليل ليس كالنهار، وعليه فالمرفق هنا داخل في الحكم - كما سيأتي هذا إن شاء الله-.

 أما حكم غسل اليدين فهو فرض من فروض الوضوء، كما ذكر الله – سبحانه- ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وأيديكم إلى المرافق). ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم.

وهنا بعض التفصيلات حول غسل اليدين منها:

أنه يستحب تقديم اليد اليمنى على اليسرى بالإجماع, ولم يخالف في ذلك أحد من الأئمة المعتبرين. كما أنه يكره تقديم اليسرى على اليمنى كراهة تنزيه, وإن كان مجزئاً عند وقوعه.

وتبدأ اليد من بداية الأصابع إلى المرافق, لكن هل المرفقان داخلان في اليدين؟ جمهور أهل العلم على أن المرفقين ضمن اليدين, بدليل قوله تعالى: (وأيديكم إلى المرافق). كما سبق بيانه، ويعضد ذلك ما رواه الإمام مسلم - رحمه الله- في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم- عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أنه توضأ فغسل يديه حتى شرع في العضدين. وغسل رجليه حتى أشرع في الساقين، ثم قال، هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم- يتوضأ. فدل هذا على وجوب غسل المرفقين مع اليدين، ومن المستحب أيضاً أن تُغسل كل يد ثلاثاً، كما نص عليه في الحديث.

الوقفة الثامنة: قوله: (ثم مسح برأسه)، وقال في الرواية الأخرى: (ثم أدخل يديه فمسح رأسه، فأقبل بهما، وأدبر مرة واحدة)، وفي رواية (بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه).

هذه العبارات تبين ما يتعلق بمسح الرأس، ونفصله على النحو الآتي:

قوله: (برأسه) الباء هنا قيل إنها للتعدية، وقيل : للإلصاق، وقيل للتبعيض. ويأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.

ومسح الرأس فرض من فروض الوضوء، لا خلاف في ذلك بين أهل العلم؛ لقوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم) وما نص عليه في هذا الحديث وغيره.

والرأس: ما اشتملت عليه منابت الشعر المعتادة، لكن ما هو القدر الواجب مسحه من الرأس؟

اختلف العلماء في ذلك على أقوال: أشهرها اثنان، هما: أنه يجزئ مسح بعضه، فمنهم من قال: ربعه، ومنهم من قال: قدر الناصية، ومنهم من قال: بعضه ولو يسيراً، فهم يقولون بأن المسح يقع على القليل والكثير.

والقول الثاني: يجب مسح جميعه، وهو المشهور من مذهب المالكية، والحنابلة، مستدلين بقوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم)، أي بجميع رؤوسكم، فالباء هنا للإلصاق، وهو الموافق لمسح النبي  - صلى الله عليه وسلم- كما سبق ذلك. وهذا القول هو الذي يظهر رجحانه، وهو الأحوط، والأسلم للذمة.

أما كيفية مسح الرأس: أن يأخذ الماء بكفيه، ثم يرسله، ثم يلصق طرف سبابته بطريف سبابته الأخرى، ثم يضعها على مقدم رأسه، ويضع إبهاميه على صدغيه، ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، وهذه الكيفية هي التي ذكرت في الحديث: (مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما، حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه).

وإن مسح بغير هذه الصفة جاز إن شاء الله، لكنه ترك الأفضل والأولى.

ونلاحظ في الحديث أنه ذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- مسح مرة واحدة فقط، وهذا مذهب جمهور أهل العلم.

والمرأة كالرجل في صفة المسح، لا تختلف عنه، ومما يَكْمُلُ أهبه مسح الرأس مسحُ الأذنين، فهما من الرأس، وهذا ما ذهب إليه أكثر أهل العلم، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم-: (الأذنان من الرأس)(9)، وقد ورد هذا الحديث بعدة طرق تنهض به للاحتجاج، يقول الترمذي - رحمه الله-: (العمل على هذا – أي كون الأذنين من الرأس – عند أكثر أهل العلم)، لكن هل مسح الأذنين واجب أو مستحب؟ قولان لأهل العلم في ذلك، والصواب – والله أعلم – أنه واجب؛ لكونهما من الرأس؛ ولأن بعضاً ممن وصف وضوء النبي- صلى الله عليه وسلم- ذكر أنه مسح بأذنيه، وهو الأحوط والأبرأ للذمة، وصفة مسحهما أن يأخذ الماء بيديه، ويدخل مسبحتيه في صماخي أذنيه، ويديرهما على المعاطف، ويمر الإبهامين على ظهور الأذنين، لما ورد عن ابن عباس أنه مسح ظاهرهما وباطنهما.

وهل يأخذ ماءً جديداً للأذنين، أم يكفي الماء الذي مسح به رأسه؟

قولان لأهل العلم في ذلك، والصواب – والله أعلم – أنه لا يأخذ ماءً جديداً؛ لأنه لم يثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أن أخذ لهما ماءً جديداً.

 



(1) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثاً 1/259 رقم 1059، ومسلم في كتاب الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله 1/204 رقم 226.

(2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب مسح الرأس كله 1/289 رقم 158، ومسلم في كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي 1/210 رقم 235.

(3) سبق تخريجه.

(4) سبق تخريجه.

(5) سبق تخريجه.

(6) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب الاستنثار 1/35 رقم 142 – 143 -144، والترمذي في أبواب الطهارة، باب ما جاء في تخليل الأصابع 1/56 رقم 38.

(7) سبق تخريجه.

(8) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة 1/216.

(9) رواه الإمام أحمد 5/268، وأبو داود في كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي رقم 134، والترمذي في الطهارة باب ما جاء أن الأذنين من بعد الرأس رقم 37.

 



بحث عن بحث