أقوال للعلماء تؤيد الترجيح السابق

 

والقول الذي رجحته وذهبت إليه ليس تفرداً منى: بل إن العلامة الأوسي بعد أن ذكر آراء العلماء حول الآية يقول : " واختار كثير من العلماء القول الأول – وهو ما رجحته وانتهيت إليه- وهو أخذ الميثاق من النبيين له صلى الله عليه وسلم على ما دل عليه قول الإمام على كرم الله تعالى وجهه، مع علمه سبحانه أنهم لا يدركون وقته لا يمنع من ذلك، لما فيه مع ما علمه الله تعالى من التعظيم له صلى الله عليه وسلم والتفخيم، ورفعة الشأن، والتنويه بالذكر، ما لا ينبغي إلا لذلك الجناب، وتعظيم الفائدة إذا كان ذلك الأخذ عليهم في كتبهم لا في عالم الذر فإنه بعيد كبعد ذلك الزمان – كما عليه البعض.

ويؤيد القول بأخذ الميثاق من الأنبياء الموجب لإيمان من أدركه عليه الصلاة والسلام منهم به، ما أخرجه أبو يعلى عن جابر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، فإما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني ) (1)

وفى معناه أخبار كثيرة وهى تؤيد بظاهرها ما قلنا – ومن هنا ذهب العارفون إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو النبي المطلق، والرسول الحقيقي والمشرع الاستقلالي، وأن من سواه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم التبعية له صلى الله عليه وسلم" (2)

ويعلق العلامة ابن كثير على حديث أبى يعلى السابق بقوله: "وفى بعض الأحاديث: "لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي".

فالرسول محمد خاتم الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين – هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر لكان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وكذلك هو الشفيع في المحشر في إتيان الرب جل جلاله لفصل القضاء بين عباده، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلا له، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين حتى تنتهي النوبة إليه فيكون هو المخصص به صلوات الله وسلامه عليه"(3)

وللشيخ تقى الدين السبكى استنباط رائع استقاه من هذه الآية يقول الشيخ في كتابه "التعظيم والمنة في "لتؤمنن به ولتنصرنه" (في هذه الآية من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم قدره العلى ما لا يخفى- وفيه مع ذلك أنه على تقدير مجيئه فى زمانهم يكون مرسلا إليهم، فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته ، ويكون قوله:( بعثت إلى الناس كافة ) (4)،لا يختص  به الناس في زمانه إلى يوم القيامة  بل يتناول من قبلهم أيضا.

فانظر هذا التعظيم العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، من ربه سبحانه وتعالى، فإذا عرفت ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم هو نبي الأنبياء ولهذا ظهر ذلك فى الآخرة ، جميع الأنبياء تحت لوائه، وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم، ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته ، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم، فنبوته عليهم ورسالته إليهم معنى حاصل له، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه ــ فتأخر ذلك الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافهم بما يقتضيه – وفرق بين توقف الفعل على قبول المحل وتوقفه على أهلية الفاعل، فهنا لا توقف من جهة الفاعل ولا من جهة ذات النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر المشتمل عليه، فلو وجد فى عصرهم لزمهم اتباعه بلا شك، ولهذا يأتي عيسى فى آخر الزمان على شريعته وهو نبي كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أنه يأتي واحدا من هذه الأمة – نعم هو واحد من هذه الأمة لما قلناه من اتباعه للنبي صلى  الله عليه وسلم – وإنما يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة وكل ما فيهما من أمر ونهى فهو متعلق به كما يتعلق بسائر الأمة، وهو نبي كريم على حاله لم ينقص منه شيء، ولذلك لو بعث النبي صلى الله عليه وسلم فى زمانه أو فى زمن موسى وإبراهيم ونوح وآدم كانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم نبي الله ورسوله إلى جميعهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم ويتفق مع شرائعهم فى الأصول لأنها لا تختلف – وتقدم شريعته صلى الله عليه وسلم فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع إما على سبيل التخصيص، وإما على سبيل النسخ – أو لا نسخ ولا تخصيص – بل تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأوقات بالنسبة إلى تلك الأمم مما جاءت به أنبياؤهم، وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة هذه الشريعة ــ والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات).

ولعمري إنه لاستنباط رائع وفهم جميل.



(1)الحديث أخرجه أحمد ( 3 / 387 ) وفي إسناده مجالد بن سعيد الهمداني ، قال عنه ابن حجر في التقريب : ( 2 / 237 ) " ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره ، وقال في التنقيح : رجال أحمد رجال الحسن ، وعند أحمد وابن ماجه عن ابن عباس ، وإسناده حسن ، وعند ابن حبان عن جابر أيضا بإسناد صحيح ( بلوغ الآماني ( 1ذ / 175 ) وأخرج طرفا منه أبو نعيم في دلائله ( 1 / 8 ) ، وانظر : تفسير ابن كثير ( 2 / 56 ) .

(2) تفسير الألوسي ( 3 / 210 ).

(3) تفسير ابن كثير ( 2 / 56 ، 57 ) .

(4) أخرجه البخاري ، كتاب الصلاة ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ( جعلت لي الأرض مسجدا ... ) ( 438 )

 



بحث عن بحث