القول الراجح في المأخوذ له الميثاق

 

والقول الذي أرجحه و يميل إليه قلبي و تستريح له نفسي : هو أن الله أخذ الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه و سلم وأن ينصروه.

و معلوم بداهة أن الأخذ على المتبوع في طيه أخذ على الأتباع حيث إنهم مأمورون باتباع أنبيائهم فيما جاءوا به وأرشدوا إليه , وعليه فيكون أخذ الميثاق واقعاً على الأنبياء كفاحاً وعلى أممهم بالتبعية لهم.

روى الطبري بسنده إلى السدى قال في قوله ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ ). الآية " لم يبعث الله عز وجل نبياً قط من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه ليؤمنن بمحمد و لينصرنه إن خرج وهو حي,وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به و لينصرنه إن خرج وهم أحياء"(1) .

و قال ابن كثير : " قال علي بن أبي طالب و ابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به و لينصرونه "(2).

 وقال ابن هشام : و كان الله ــ  تبارك و تعالى ــ  قد أخذ الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به , و التصديق له , و النصر له على من خالفه , وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم ، فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيهم ,  يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه و سلم:( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ .....الآية )(3) .

 ويقول بعض العارفين :- فآدم كانت أوامره بنصرته لأولاده لا تحصى , و نوح عهد إلى أتباعه باتباعه ووصى , و الخليل كان أكثرهم اجتهاداً في ذلك وحرصاً , و بنوه تواصوا و إسماعيل أكثرهم فحصاً  , وتوراة موسى نطقت بنعته و صفاته , وأبانت عن معانيه وآياته , و أوضح برهان على ذلك و دليل ( أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ ) , وزبور داود أفصح بصدق معجزاته و أعرب عن ظهور بيناته ، وإنجيل عيسى شهد بأنه الخاتم الذي يشكر ويحمد , وصرح به قوله تعالى : ( وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (4).

و بناءً على هذه الأقوال يكون المقصود من قوله تعالى : (ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ..... الآية ) رسولاً واحداً وهو محمد صلى الله عليه و سلم .

و بذا يضعف القول إلي ذهب إلى أن الميثاق إنما أخذ على كل نبي في النبي الذي يأتي بعده.

والذي يدعم ذلك و يؤكده وجوه :

الوجه الأول : أنه لم يرد في آية ولا في حديث صحيح أن الله تعالى أخذ العهد في شأن نبي غير نبينا صلى الله عليه و سلم , و يؤكده أن الميثاق في الآية مأخوذ من جماعة لمفرد " النَّبِيِّيْنَ , جَاءكُمْ " هذا في المأخوذ عليه أما المأخوذ له فقال " رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ ".

الوجه الثاني : أن القرآن لم يصف نبياً بأنه مصدق لما بين يديه أو مصدق لما مع الأنبياء قبله ، غير نبينا صلى الله عليه و سلم ، و لم يوصف كتاب بأنه مصدق لما بين يديه غير القرآن .

قال تعالى (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ)[ سورة البقرة / 89 ] .

و قال تعالى ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )[ سورة البقرة / 97 ]  .

و قال تعالى : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)[ سورة المائدة / 48 ] .

و قال تعالى : (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ)[ سورة الأنعام / 92] .

و قال سبحانه في وصف النبي صلى الله عليه و سلم (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ منْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ)[ سورة البقرة / 101 ] .

و انظر كيف قال الله تعالى في حق عيسى عليه السلام (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ )[ سورة المائدة / 46 ].

و قال سبحانه (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) [ سورة الصف / 6 ] .

و يقول تعالى أيضاً (وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ )[ سورة آل عمران / 50 ] .

فعيسى الذي جاء متمماً لشريعة موسى عليهما السلام لم يكن إلا مصدقاً لما بين يديه من التوراة ، والإنجيل الذي جاء به كان مصدقا لما بين يديه من التوراة فقط , ولكن التوراة التي جاء عيسى متمماً ومصدقاً لها لم تكن مصدقة لما أنزل على إبراهيم أو لوط أو شعيب عليهم السلام , لتباين الشرائع المنزلة , ولأن تصديق الكتب كلها و الهيمنة عليها من خصائص القرآن العظيم.

 


(1) تفسير الطبري ( 6 / 556 ) .

(2) تفسير ابن كثير ( 1 / 378 ) .

(3) السيرة لابن هشام ( 250 ) .

(4)  إيثار الحق على الخلق ص 82 .

 



بحث عن بحث