علم الأنبياء وعلوم البشر

مثل العلم الذي يجئ به الأنبياء مع علوم البشر

إن الفرق الواضح الذي بين علم الأنبياء وبين علوم العلماء والحكماء يتجلى بوضوح في هذه القصة:

يحكي أن فريقا من تلاميذ المدارس ركبوا سفينة للنزهة في البحر، أو للوصول إلى البر، وكان في النفس نشاط،وفي الوقت سعة، وكان الملاح المجدف الأميَّ خير موضوع للدعابة، والتنادر، وخير وسيلة للتلهي وترويح النفس، وخاطبة تلميذ ذكي جرئ، وقال: يا عم! ماذا درست من العلوم؟ قال: ولا شيء يا عزيزي! قال: أما درست العلوم الطبيعية يا عمي؟! قال: كلا، ولا سمعت بها، وتكلم أحد زملائه، وقال: ولكنك لابد درست علم الإقليدس، والجبر، والمقابلة! قال: وهذا أغرب، وتصدقوني إني أول مرة أسمع هذه الأسماء الهائلة الغربية، وتكلم ثالث (شاطر) فقال: ولكني متأكد بأنك درست الجغرافية والتاريخ! فقال: وهل هما اسمان لبلدين، وعلمان لشخصين؟.

وهنا لم يملك الشباب نفوسهم المرحة، وعلا صوتهم بالقهقهة، وقالوا: ما سنك يا عم؟! قال: أنا في الأربعين من سني! قالوا: لقد ضيعت نصف عمرك يا عمنا! وسكت الملاح الأمي على غصص ومضض، وبقي ينتظر دوره، والزمان  دوار.

وهاج البحر وماج، وارتفعت الأمواج، وبدأت السفينة تضطرب، والأمواج فاغرة أفواها لتبتلعها، واضطرب الشباب في السفينة – وكانت أول تجربة لهم في البحر – وأشرفت السفينة على الغرق، وجاء دور الملاح الأمي فقال في هدوء  ووقار: ما هي العلوم والآداب التي درستموها في الكلية، وتوسعتم فيها في الجامعة من غير أن يفطنوا لغرض الملاح الجاهل الحكيم، ولما انتهوا من عد العلوم المرعبة أسماؤها، قال في وقار تمزجه نشوة الانتصار: لقد درستم يا أبنائي هذه العلوم الكثيرة فهل درستم علم السباحة؟ وهل تعرفون إذا انقلبت هذه السفينة – لا قدر الله – كيف تسبحون وتصلون إلى الساحل بسلام؟ قالوا: لا والله يا عم! هو العلم الوحيد الذي فاتتنا دراسته والإلمام به، هنالك ضحك الملاح، وقال: إذا كنت قد ضيعت نصف عمري فقد أتلفتم عمركم كله، لأن هذه العلوم لا تغني عنكم في هذا الطوفان، إنما كان ينجدكم العلم الوحيد، هو علم السباحة الذي تجهلونه.

هذه هي قصة الأمم المتمدنة الراقية – التي مضت – كانت دائرة معارف، وكانت زعيمة العالم كله في كل ما أنتجه البشر، وتوصلوا إليه في العلوم والحكمة، واكتشفوا به هذا الكون الواسع والذخائر المودعة فيه، ولكنها جهلت العلم الوحيد الذي يوصل إلى الخالق، ويُعرِّف به، والذي تنال به النجاة، وهو بر السلام والساحل المقصود، هو الذي يضبط الأعمال، والرغبات، ويقهر النزوات، والشهوات، ويصلح الأخلاق، ويهذب النفوس، ويردع عن الشر، ويدفع إلى الخير، ويلهم خشية الله التي لا صلاح للمجتمع، ولا قوام للمدنية بغيرها، ويحمل الإنسان على التهيؤ للمصير، والاستعداد للآخرة، ويخفف من غلواء الأنانية، وحب الذات، والتكالب على حطام الدنيا، ويلهم الاقتصاد والسداد، ويمنعه من الجهاد في غير جهاد.

وقد حكي الله قصة هذه الأمم التي غلب عليها الزهو والتيه، واستصغرت شأن الأنبياء المبعوثين في عصرها، الذين لم يشتهروا بامتياز في علم من العلوم السائدة فقال: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)[ غافر/83 ].

وهذه قصة كل أمة بلغت شأوا بعيدا في العلم والمدنية والصناعة والحكمة بعد بعثة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقد منعها استكبارها وزهوها واعتمادها الزائد على علومها وحضارتها، وعلى أساتذتها النوابغ وعباقرتها الكبار من الإفادة من العلم الغزير الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والتمسك بأهدابه، والسير في ركابه، وقصة كل أمة معاصرة تمكنها الإفادة من هذا الدين الخالد، ومن هذا النور الوضاء، وستلقى هذه الأمم كلها جزاء الاستكبار، ونتيجة هذا الإنكار أو الاستغناء، في تعفن حضارتها، وانهيار مدنيتها.

 وشأن الأقطار الإسلامية والعربية في الإعراض عن هذه التعليمات، وهذا العلم الغزير الموجود، والزهد في الاستفادة منه، والتهالك على الحضارة الغربية، والقيم المادية، والأوضاع الجاهلية، والفلسفات القومية أو الاشتراكية أغرب، وهي على خطر عظيم لا يدفعه شيء، ولا تزال معاقبة بالفرقة والاختلاف، والفوضى والثورات، والتحاسد والتباغض، وعدم التعاون والاتحاد، وذهاب الريح والشوكة، والهوان على العدو(1).


(1)      انظر: محاضرات إسلامية في الفكر والدعوة للعلامة أبي الحسن الندوي 3/15، 16، 19، 21.

 



بحث عن بحث